عاجل

تتصاعد التوترات بين إثيوبيا وإريتريا، الجارتين العدوتان التقليديتين، فقد ظلت العلاقات بين البلدين هشة منذ إعلان استقلال إريتريا عن إثيوبيا في عام 1993 بعد حرب تحرير امتدت لثلاثون عاما. لم تنعما بالسلام بعد الاستقلال، فقد أودت حروب حدودية دامية بين عامي 1998 و2000 بحياة الآلاف وجرفت تربة السلام بين البلدين لعقود، حتى أتى اتفاق السلام في عام 2018 ودخلت جيوش الدولتين في حرب مشتركة في 2020 على إقليم التيجراي الإثيوبي. ومع عقد اتفاقية بروترويا للسلام وإنهاء تلك الحرب اتخذ الصراع أشكالا أخرى من التصعيد.

بالطبع الصراع الإيريتري الإثيوبي ليس الصراع الوحيد في منطقة القرن الإفريقي، إلا إنه لا يكف عن إظهار وميض شراراته في الأفق. فقد أصدر الرئيس الإريتري إسياس أفورقي إنذارا حادا لإثيوبيا، محذرًا إياها من أي تحركات قد تؤدي إلى تجدد الصراع بين البلدين. وفي خطابه المباشر إلى رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد، عبر وسائل الإعلام المحلية، حذر الرئيس أفورقي من أن إريتريا لن ترهب من الوزن الديموغرافي لإثيوبيا. فبينما يتجاوز عدد سكان إثيوبيا 130 مليون نسمة، يبلغ عدد سكان إريتريا 3.5 مليون فقط. وأكد أفورقي على استعداد إريتريا للدفاع عن سيادتها ومقاومة أي محاولة للإكراه. ووفقًا للحكومة الإريترية، ينبع التوتر الأخير من طموح إثيوبيا المتجدد لتأمين وصول مباشر إلى ميناء بحري، وهو هدف استراتيجي للبلد الحبيس. وقد أثارت جهود أديس أبابا لتعزيز هذا الهدف قلقًا في أسمرا.

بدأ الأمر عندما أعرب رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، في يناير 2025، عن اهتمامه بتعميق العلاقات مع جمهورية أرض الصومال المنفصلة - مع تطلعه إلى ميناء عصب الإريتري. وقد صرّح آبي مرارًا وتكرارًا بأن الوصول إلى البحر يمثل حاجة "وجودية" لإثيوبيا، أكبر دولة غير ساحلية من حيث عدد السكان في العالم. في فبراير 2025، ولعل ما حمل أسد إيريتريا العجوز لإسماع ساكن قصر اليوبيل في أديس أبابا زأيره، هو وصف آبي خسارة إثيوبيا للساحل الإريتري بـ"الخطأ التاريخي". ليباغت إسياس أفورقي الجميع بإعلان حالة تعبئة عامة كبيرة، ردت إثيوبيا بخطوة مماثلة في مارس. وبحسب التقارير الأمنية الواردة، تم نشر أسلحة ثقيلة ووحدات ميكانيكية بالقرب من الحدود.

وبالرغم من بقاء التواجد العسكري الإريتري في إقليم التيجراي، إلا أن أصواتها تعلوا بالتحذير من التحشيد الإثيوبي على حدودها مع منطقة عفار الإثيوبية. ووسط تراشق إعلامي كبير بين الطرفين، لعبت مخابرات كلُ منهما أدوارا رئيسية في تأجيج جبهة الآخر الداخلية. فعلى الجبهة الإريترية رأينا مخابراتها ساعدت جبريميكائيل دبرصيون، زعيم جبهة تحرير شعب تجراي في محاولة انقلاب على جيتاشو رضا مساعده المنشق عنه والمنضم لجبهة رئيس الوزراء آبي أحمد، حيث عينه رئيسا مؤقتا للإقليم والذي اعتبرته الجبهة لا يعبر عنها ومفروضا عليها لتعزيز سلطة الحكومة الفيدرالية في الإقليم. أدى التمرد إلى إعاقة الحكومة الإقليمية، والإعلان عن توجه قوي يسعى لفصل إقليم تجراي عن إثيوبيا. وخلال مارس فقط، كانت جبهة المتمردين من الجبهة قد استولت على عدد من المدن الرئيسية في الإقليم، و سيطرت على محطة الإذاعة الرئيسية في مدينة ميكيلي عاصمة الإقليم، ما أثار قلق الحكومة الاثيوبية، ودفعها لتكثيف نشر قواتها على الحدود مع إريتريا، متيقنة من أن اسمرا هي جهة الدعم الفعلي للانفصالين في إقليم تيجراي.

بينما على الجبهة الإثيوبية جندت المخابرات إعلامها ونخبتها السياسية وحشدت الأعداد الكبيرة في شوارع أديس أبابا لتبرير تمسك السلطة الإثيوبية بشرعية الحصول على ميناء عصب الإريتري، لتهديد أسمرا بالحشود التي لا تمتلكها. تخطت الدعاية الإثيوبية المجهود المخابراتي وكثفت الاعتماد على حملة دعائية دبلوماسية مستغلة كونها دولة المقر للاتحاد الإفريقي، تحدثت فيها علنيا وبالأرقام عن أسسا "قانونية" و "أخلاقية" لاستعادة جغرافيتها "المستحقة" في الوصول إلى البحر الأحمر. كما أن لديها دوافع مالية قوية تحتم على دول الجوار أخذها بعين الاعتبار: فهي تدفع حوالي 1.6 مليار دولار سنويًا كرسوم موانئ لجيبوتي، وتضع نموها الاقتصادي "المحتمل" على شماعة الوصول إلى البحر بنسبة 25-30%. ومما زاد الطين بلة، استضافت أديس أبابا مؤتمرًا مثيرًا للجدل للواء نحميدو، وهي جماعة منشقة معروفة بتعطيل فعاليات الحكومة الإريترية بين الشتات في الدول الغربية. التجمع الذي شهد تصعيدًا ملحوظًا في أنشطة الجماعة، بمشاركة واسعة شملت أعضاء من المؤتمر الوطني العفري الإريتري. وكان القرار النهائي: الالتزام بالكفاح المسلح لإسقاط النظام الإريتري. وبذلك تكون إثيوبيا قد ثبتت إسمها ضمن لائحة أعداء إسياس أفورقي.

حاولت عددا من الدول والمنظمات التدخل لتجنب التصعيد أو بالأحرى محاولة إرجاع آبي أحمد لقواعد القانون الدولي والتخلي عن نبرة الاستحقاق والمظلومية، ولكنه لم يجد إلا بصيص أمل واحد لدى ماكرون فرنسا، الذي حاول هو الآخر مداوة جروح طرده من دول الساحل الإفريقي الست في عامين، عن طريق محاولة إيجاد موطئ قدم بديلا عنهم. ولكن ماكرون لم يجد اللبن والعسل الذي يعوضه عن فقدان يورانيوم النيجر ومنجنيز بوركينا فاسو وذهب مالي. اضطُر ماكرون أن يكون دبلوماسيا أكثر من اللازم ولم يعبأ بأهداف آبي أحمد ولا حتى بالقانون الدولي، فما كان منه إلا أن منحه تصريح لا يسمن ولا يغني من جوع: من حق إثيوبيا أن يكون لها منفذ بحري ولكن بالطرق السلمية. حيث أعطاه اعتراف بما لا يملك ولكنه اعتراف مشروط بموافقة جيرانه، وهو الأمر الذي رفضته إيريتريا وسبقتها في الرفض الصومال ونقلت جيبوتي لسيد الإليزيه تخوفها منه هى الأخرى.

ومع إلحاح إثيوبيا على المجتمع الدولي للضغط على إرتيريا للتفاوض التي رفضت بدورها مجرد طرح الفكرة وانتقد وزير خارجية إريتريا طموحات إثيوبيا البحرية ووصفها بأنها "مضللة وعفا عليها الزمن"، ونوه لأن بلاده قد أصدرت سابقًا بيانات ترفض فيها مناقشة صفقات الموانئ التي تقوض سلامة أراضيها. وقال: "تشعر إريتريا بالحيرة إزاء طموحات إثيوبيا الخاطئة والبالية للوصول إلى البحر وإنشاء قاعدة بحرية عبر الدبلوماسية أو القوة العسكرية". وأضاف: "في هذا الصدد، تحث إريتريا المجتمع الدولي وهيئاته المعنية على الضغط على إثيوبيا لاحترام سيادة جيرانها وسلامة أراضيهم". كما أن المجتمع الافريقي والدولي هو الآخر قد قرأ المطالبات الإثيوبية على أنها خطيرة على أمن القرن الافريقي والبحر الأحمر الذي ما زال يواجه تحديات الحوثيين ولا يرغب في دخول طرف جديد لديه تاريخ توسعي طويل.

هذا وتتسع رقعة الشطرنج التي يتصارع عليها الطرفين إريتريا وإثيوبيا وبينهما التيجراي الذي يلعب مقاتلوه أيضًا دورًا هامًا في دعم القوات المسلحة السودانية ضد قوات الدعم السريع في السودان المجاور، حيث تدعم إريتريا القوات المسلحة السودانية أيضًا. وهنا تشعر الحكومة الفيدرالية الإثيوبية بالتهديد من وجود تلك القوات في غرب تيغراي، حيث توجد منطقة الفشقة السودانية التي تحتل أجزاء منها عصابات الأمهرا تحت رعاية الجيش الإثيوبي، مما يهدد مصالح عدد كبير من المزارعين الإثيوبيين الذين تقدر أعدادهم بالآلاف، مستوليين على ملايين من الأفدنة الخصبة التي تُروى من حصة مياه السودان. ومما لا شك فيه أن هذا الأمر قد يفتح جبهة جديدة من الصراع على آبي أحمد هو حتما غير مستعد لها.


في الأول من أبريل 2025، حذّر نائب زعيم تيجراي، الجنرال تسادكان جبريتينساي، من أن الحرب بين إثيوبيا وإريتريا قد "تنشب في أي لحظة"، وأن المنطقة معرضة لخطر أن تصبح ساحة معركة بين الدولتين يكون حطبها إقليم التيجراي الذي لم يتعافى من حرب العامين وما زال يتعرض للهجمات المستمرة في خضم صراعه الأزلي مع إقليم الأمهرا. وبات إقليم التيجراي ساحة متجددة للقتال حتى في أوقات السلم تبقى نيرانه لا تنطفئ تحت الرماد. ووفقًا لموقع "أفريكا إنتليجنس" أبريل 2025، قد يسعى آبي الآن إلى ضمان دعم تيجراي، لا سيما بالنظر إلى قوتها العسكرية الهائلة التي يبلغ قوامها حوالي 200 ألف جندي، يحتاج تحييدهم عن  الحرب السودانية التي يدعم فيها مليشيا الدعم السريع، عكس ما تدعمه قوات التيجراي وقد تشكل محاولة السيطرة والإخضاع تلك، تهديدًا خطيرًا لإريتريا.

في الوقت نفسه، أفادت التقارير أن إريتريا بدأت بتقويض آبي بدعم أعدائه في الإقليم الأكبر "شرق افريقيا" عن طريق توقيع عدد من الاتفاقيات الإستراتيجية، بالإضافة إلى معاهدة دفاع مشترك مع مصر رفيعة المستوى. مصر القوة العسكرية الأكبر في إفريقيا والتي دخلت إثيوبيا ضدها ي نزاع طويل على مياه النيل بعد أزمة سد النهضة، والتي استدعتها عداوات رئيس وزراء إثيوبيا مع جيرانه وأصبحوا جميعا بلا استثناء في خندق واحد مصر ضد إثيوبيا الذي بات الجميع يراها: دولة ذات جسد كبير وعقل متهور صغير. بهذه الخطوة تكون إريتريا قد حسمت الصراع لصالحها قبل أن يبدأ. وبالرغم من وصف بايتون كنوبف وألكسندر روندوس، المبعوثان الخاصان السابقان للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى المنطقة، التطورات بأنها "مادة مشتعلة تنتظر عود ثقاب قد يُشعل حربًا بين إثيوبيا وإريتريا". إلا أنه حتى و إن نشب، فستكون إثيوبيا المتصارعة مع قوى إقليمية و قوى حدودية وأقاليم داخلية و صراعات داخلية فستكون إثيوبيا بشكلها الحالي صفحة من التاريخ خارج الجغرافيا.

تم نسخ الرابط