عاجل

الجينوسايد أو جريمة الجرائم.. مجريات محاكمة إسرائيل في لاهاي

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب الجينوسايد أو جريمة الجرائم: مجريات محاكمة إسرائيل في لاهاي، وهو ترجمة لخمس وثائق أساسية في الدعوى التي رفعتها جمهورية جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي في 29 ديسمبر 2023، وذلك بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948، متهمةً إياها بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية في حق الفلسطينيين في قطاع غزّة، في ضوء الحرب التي بدأت في 7 أكتوبر 2023. يقع الكتاب في 632 صفحة، شاملًا توطئةً وتقديمًا للدكتور عزمي بشارة، وخمسة أقسام إضافة إلى فهرس عامّ.

يضمّ الكتاب ترجمة كاملة للوثائق المقدّمة إلى محكمة العدل الدولية، بما يشمل لائحة الاتهام التي رفعتها جنوب أفريقيا ومرافعاتها، إضافة إلى مرافعة إسرائيل، والتقرير المرفوع إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، الذي يوثق بالأدلة وجود نية إسرائيلية لارتكاب إبادة جماعية، من خلال تصريحات رسمية وأعمال عسكرية ممنهجة تستهدف الفلسطينيين بصفتهم جماعة قومية، بهدف تدميرها ماديًا أو تهجيرها قسريًا. ويعرض جلسات المحكمة التي عُقدت في كانون الثاني/ يناير 2024، وصولًا إلى إصدارها أمرًا بتطبيق الاتفاقية في 26 من الشهر نفسه، ويبيّن أن جنوب أفريقيا واصلت بعدها جهودها القانونية والدبلوماسية بتقديم أدلة إضافية إلى مجلس الأمن في أيار/ مايو من العام نفسه.

خصّ الدكتور عزمي بشارة هذا العمل بمقدمة تحليلية معمّقة تتناول المفهوم القانوني للإبادة الجماعية، وتفكّك محاولات إنكارها أو الالتفاف عليها عبر ادّعاءات "الدفاع عن النفس" أو استحضار الهولوكوست، وترصد موقف الغرب المنحاز الذي يحرّم نقد إسرائيل بدعوى معاداة السامية، وتتأمل في المسارات القانونية والأخلاقية التي تقود إلى إثبات نية الإبادة الجماعية، متحدّثةً عن هذه الجريمة من تعريف القانون إلى مراوغة السياسة، حيث إنّ الإبادة الجماعية كانت منذ فجر التاريخ فعلًا يتجاوز القتل ليمسّ الكينونة الإنسانية، ويشوّه الهوية الثقافية حتى الفناء. أمّا مفهوم الجينوسايد، فلم يظهر بصيغته القانونية إلا في القرن العشرين، حين صاغه رفائيل ليمكين خلال الحرب العالمية الثانية، متأثرًا بما حصل في مجازر الأرمن والآشوريين، معرّفًا إياه بأنه محوٌ للروح الجماعية، لا مجرد إزهاق أرواح. وقد جاءت اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1948 ردًّا على الهولوكوست، لكنّها، مع أهمّيّتها، تجاهلت أبعادًا حيوية، كالتدمير الثقافي، واستثنت جماعات سياسية وطبقية؛ ما أضعف شمولية تعريف الجريمة. وفي حين يجرّم القانون الإبادة، يظل الاعتراف بها رهين السياسة ومصالح الدول، كما ظهر جليًا في تناقض المواقف الغربية تجاه رواندا، وأوكرانيا، وجرائم إسرائيل.

أمّا عن النية المستترة وسلاح التلاعب بالمصطلح، فيرد في الكتاب أن الدول تعمد إلى تفادي وصف جرائم إسرائيل بـ "الإبادة" لتجنّب تبعات قانونية وأخلاقية؛ فالإقرار بالجريمة يفرض التزامات التدخل. في حين يبقى إثبات "النية" العقبة القانونية الأكبر؛ لأنها غالبًا ما تكون مستترة، ولا تصدر على شكل أوامر صريحة. ولذلك، تعتمد المحاكم على الأدلة الظرفية، كخطابات التحريض أو الممارسات المتكررة. وقد أتاح المفهوم القانوني التقليدي، المرتكز على النية المعلنة، مساحاتٍ للإفلات، كما يرى ديرك موزس، الذي يدعو إلى توسيع التعريف ليشمل الأفعال الممنهجة التي تؤدي إلى الفناء، بغضّ النظر عن التصريح بالنية، مثل ما يحصل في قطاع غزة؛ فحين يُدرك الفاعل أن أفعاله تفضي إلى إبادة ويستمر في جريمته، فإن الإدانة يجب أن تنبع من أثر الفعل لا من لغته.

الهوية والهولوكوست وازدواجية الأخلاق الدولية

وضمن هذا الجدل، تستأثر إسرائيل بسردية الهولوكوست لتشكيل هويتها القومية وتحصين نفسها من الإدانة، حيث يُوسم أيّ انتقاد لها بمعاداة السامية. وتدين المؤسسات الغربية حوادث مثل عملية 7 تشرين الأول/ أكتوبر، لكنّها تلتزم الصمت حيال الفظائع في غزة، حيث تُستخدم مفردات "التهديد الوجودي" لتبرير القتل الجماعي، في حين تُغيَّب جذور الاحتلال والاستعمار. ويتماهى الإعلام والخطاب السياسي مع هذا المنطق، حتى يتحوّل الدفاع عن النفس إلى أداة لإبادة ممنهجة، تتوارى خلف لغة الأمن والسيادة، بينما يُسحق الواقع الفلسطيني تحت ركام الصمت الدولي.

جنوب أفريقيا: صوت العدالة في محكمة العدل الدولية

يبيّن الكتاب أنّ جنوب أفريقيا رفعت، في خطوة غير مسبوقة، دعوى ضد إسرائيل بتهمة ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية في غزة، مستندةً إلى اتفاقية عام 1948، وإلى أدلة دامغة مثل: القتل الجماعي، وتدمير المرافق المدنية، وفرض ظروف معيشية قاتلة، وتحريض علني من أعلى المستويات السياسية والعسكرية. وقدّمت تقارير وشهادات عن عشرات الآلاف من الضحايا، بينهم آلاف الأطفال، وتدمير البنى التحتية ومراكز الحياة، من مدارس ومستشفيات ومزارع ومنازل. واعتبرت أن ما يحصل لا يمكن فصله عن مسار استعمار إحلالي وفصل عنصري ممتدّ منذ النكبة، بل هو ذروته الدموية.

ثقافة الإبادة والتجاهل الدولي المستمرّ

بيّنت جنوب أفريقيا أنّ النية لا تُقاس بالتصريحات فحسب، بل بالأفعال الممنهجة والسلوك السياسي المتسق أيضًا، مشيرة إلى تحوّل الخطاب الإبادي في إسرائيل إلى ثقافة عامة تشمل التعليم، والإعلام، والقيادات. وبناء عليه، قدّمت محكمة العدل الدولية، في 26 كانون الثاني/ يناير 2024، قرارًا بإصدار تدابير مؤقتة لحماية المدنيين ووقف التحريض، لكنّ إسرائيل لم تلتزم بها، بل واصلت القصف، لا سيما في رفح. وردّت جنوب أفريقيا بدعوى جديدة مدعومة بوثائق تُظهر ازدراء القرارات الدولية. وفي ظل فشل مجلس الأمن في اتخاذ خطوات جادّة، تبدو العدالة أسيرة توازنات القوة، في الوقت الذي يتفاقم فيه الخراب وتُقابل الجرائم بصمت دوليٍ مريب.

تم نسخ الرابط