لسنوات طويلة، حكمت سوريا بقبضة حديدية تحت شعارات مثل "الوحدة الوطنية" و"الاستقرار الأمني"، في ظل نظام ديكتاتوري شديد المركزية بقيادة حافظ الأسد، ثم ابنه بشار. ورغم ما حمله ذلك الحكم من قمع للحريات، وتضييق على الحياة السياسية، وهيمنة الأجهزة الأمنية، إلا أنه فرض على الدولة نوعًا من الاستقرار القسري، ووحدة شكلية لمكونات المجتمع السوري تحت علم واحد وهوية مركزية.
لكن عام 2011 كان نقطة تحول مفصلية، حين خرجت احتجاجات تطالب بالإصلاح، ليفتح المشهد السوري على صراع مفتوح تحت لافتة "الديمقراطية". ظن كثيرون أن سقوط النظام هو بداية الحرية والكرامة والعدالة، لكن الواقع كان أكثر تعقيدًا، وسرعان ما تحولت المطالب الشعبية إلى حرب أهلية، ثم إلى حرب دولية على الأرض السورية.
ففي الوقت الذي كان يُفترض فيه أن تؤسس الثورة السورية لمسار ديمقراطي جديد، انزلقت البلاد إلى فوضى مسلّحة، وتمزّق النسيج الوطني، وتحوّلت سوريا إلى مناطق نفوذ تتقاسمها قوى دولية وإقليمية:
النظام وحلفاؤه الروس والإيرانيون،
معارضة مشتتة مدعومة من أطراف عربية وغربية،
تنظيمات متطرفة استغلت الفراغ،
مناطق كردية ذات حكم شبه ذاتي برعاية أمريكية،
وقوى دولية تتنافس على الثروات والمواقع.
باسم الديمقراطية، تفككت الدولة المركزية، وضاعت السيادة، وتحوّلت سوريا إلى ساحة لتصفية الحسابات الجيوسياسية. فالمعارضة التي انطلقت من رحم الشارع لم تستطع أن تبني مشروعًا وطنيًا جامعًا، بل انقسمت على نفسها سياسيًا وعسكريًا، وصار كل فصيل يعمل لأجندة داعمه، لا لمصلحة الوطن.
في المقابل، استثمر النظام في هذا التشتت ليستعيد السيطرة تدريجيًا بدعم روسي وإيراني، ولكن دون إصلاح حقيقي، بل بمزيد من القبضة الأمنية، ما يعني أن سوريا وقعت بين سندان الفوضى الديمقراطية، ومطرقة الاستبداد القديم.
أما الشعب السوري، فدفع الثمن الأكبر:
مئات الآلاف من القتلى،
ملايين المهجّرين داخل البلاد وخارجها،
تدمير البنى التحتية،
وغياب أفق واضح للعودة إلى وطن آمن ومستقر.
وسط هذا المشهد، يستمر المشروع الصهيوني في التمدد، مستفيدًا من انشغال العرب بأنفسهم، ومن تفكك الجيوش والدول، ومن صمت العالم على ما يحدث. فإسرائيل، التي كانت لعقود تخشى من الجبهة السورية، باتت اليوم تقصف مواقع داخل سوريا دون رد، وتفرض معادلاتها الإقليمية بلا رادع.
وقد لا يكون مستبعدًا أن تطالب مستقبلاً بنزع سلاح لبنان وسوريا وبقية الدول العربية تحت غطاء "السلام"، في ظل خنوع رسمي عربي، وتحلل المشروع القومي، وتبعية كثير من الأنظمة للقرار الأجنبي.
هكذا انتقلت سوريا من دكتاتورية موحدة إلى ديمقراطية مشوّهة مفرّقة.
وبدل أن تُبنى دولة العدالة والحرية، تم تدمير ما تبقّى من الدولة.
وبدل أن تُحترم إرادة الشعوب، أُسقطت الأنظمة ليُفرض على الشعوب واقعٌ مرير تتحكم به قوى الخارج.
فهل ما يحدث هو ديمقراطية؟
أم فوضى موجهة بأدوات "التحرير"؟
وأين نحن من المشروع الوطني الذي يوحّد لا يفرّق، يبني لا يهدم، يُصلح لا يُقصي؟
سوريا اليوم ليست مجرد دولة منكوبة، بل مرآة لانهيار منظومة عربية كاملة، وتحوّل المنطقة إلى مسرح لتمرير مشاريع تقسيمية لمصلحة إسرائيل، في ظل غياب أي مقاومة فكرية أو سياسية حقيقية.
هل نفيق قبل فوات الأوان؟ أم سنظل نغرق في وهم الشعارات، حتى نصحو ذات يوم ونحن تحت السيطرة الكاملة للمشروع الصهيوني؟