في لحظة بدا فيها أن العدالة الضريبية انتصرت، اكتشفت بريطانيا أنها أطلقت النار على خزائنها لا على الظلم. ففي أبريل الماضي، أعلنت الحكومة البريطانية إلغاء الامتياز التاريخي المعروف باسم «non-dom»، الذي كان يمنح آلاف الأثرياء الأجانب إقامة ضريبية مخففة، تُعفيهم من دفع الضرائب على دخولهم العالمية. خطوة روّجت لها الحكومة على أنها إصلاح جذري، لكنه سرعان ما كشف عن وجهه الآخر: نزيف اقتصادي، وانكماش في سوق العقارات، وتدافع رؤوس الأموال نحو مخارج الطوارئ.
كانت لندن لسنوات طويلة المرفأ الآمن لرأس المال العالمي، حيث تتلاقى المصالح في واحة من المرونة الضريبية والسياسات الذكية. فجأة، بدا أن تلك الواحة توشك أن تجف. والمشهد لم يحتج سوى لأشهر قليلة كي يتكلم بلغة الأرقام والهجرات.
الملياردير المصري ناصف ساويرس – أحد أبرز المستثمرين في أوروبا – غادر إلى إيطاليا، بينما رحل الألماني كريستيان أنغرمير إلى سويسرا. أما آن كابلان، سيدة الأعمال الكندية التي اندمجت في المجتمع البريطاني حتى النخاع، فقد باعت قلعتها في الريف الإنجليزي وودّعت كل ما ظنته “وطنًا ثانيًا”. رجل الأعمال اللبناني‑النيجيري باسم حيدر اختصر الموقف قائلًا: “حان وقت حزم الأمتعة”، مقدّرًا أن فاتورته الضريبية الجديدة سترتفع إلى سبعة أضعاف.
•••
بحسب أرقام السوق العقارية، تراجعت مبيعات المنازل الفاخرة في لندن بنسبة 37%، وهوى متوسط أسعارها لأدنى مستوى منذ عقد. لم يعد الأثرياء يطمئنون إلى أفق المدينة التي كانت يومًا عاصمة المال في العالم. فبريطانيا – التي كانت تفاخر بتفوقها المالي والقانوني – باتت اليوم تُهدّد هذه المكانة بسوء تقدير سياسي.
ليست المشكلة في مبدأ العدالة الضريبية، بل في توقيت القرار، وسوء تقدير تبعاته. فحين تُطرد الثروة باسم “العدالة”، دون أن تُستبدل بسياسات جاذبة، يتحول الإصلاح إلى انتحار اقتصادي على مهل.
•••
بينما تغلق لندن نوافذها في وجه الكبار، تفتح روما وزيورخ وأثينا أبوابها لهم. في عالم تتنافس فيه العواصم على اجتذاب الاستثمار، أصبحت المرونة ضريبة على من لا يملكها، لا على من يطلبها. والمستثمر اليوم لا تحكمه العواطف، بل لغة الأرقام، وجودة الحياة، واستقرار السياسة.
لعل بريطانيا، التي خرجت من الاتحاد الأوروبي بحثاً عن “السيادة”، تجد نفسها الآن أمام سؤال أعمق: كيف تُحافظ على مكانتها وهي تُفرّط في أهم ما تملكه؟ الثقة.
إن أخطر ما في القرار البريطاني ليس خسارة بعض الأثرياء، بل الرسالة الرمزية التي بعثتها إلى العالم: أن الثروة، مهما ساهمت في الاقتصاد، قد تصبح فجأة “غير مرغوب فيها”.
وفي ذلك، خسارة لا تُقاس بالضرائب وحدها، بل بخسارة دور.. ومكانة.. وميراث مدينة كانت تُعرَف يومًا بأنها قلب المال النابض في العالم.