بعد وفاة العشرات.. أحداث السويداء والمسألة الطائفية في سوريا

شهدت محافظة السويداء، التي تبعد نحو 100 كيلومتر عن دمشق، جنوب سوريا، وتقطنها غالبية من المواطنين السوريين الدروز، أحداث عنف طائفي دامية خلال الفترة 13-17 يوليو 2025، ذهب ضحيتها العشرات من أبناء المحافظة من المدنيين، وقوات الأمن السورية، وأبناء العشائر من البدو، وعناصر فصائل وميليشيات محلية.
ووفقًا للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، استغلت إسرائيل الأزمة التي اندلعت على خلفية حادث اعتداء على طريق دمشق - السويداء، وقدمت نفسها باعتبارها حامية للمواطنين السوريين الدروز في السويداء الذين تعرضوا لانتهاكات وجرائم قتل وإذلال ومس بالكرامة من جانب رجال الأمن وثق مرتكبوها العديد منها، وشنت غارات جوية ضد قوات الحكومة السورية التي حاولت استعادة السيطرة على المدينة وأجبرتها على الانسحاب، بموجب اتفاق مع بعض الوجهاء والأعيان، كما قصفت مؤسسات سيادية للدولة في دمشق. وعلى إثر انسحاب القوات الحكومية، تعرض المدنيون البدو لمجازر انتقامية وعمليات تهجير، ارتكبتها ميليشيات محلية درزية؛ ما فتح الباب واسعًا أمام احتمال اندلاع صراع أهلي كبير. وتُعدّ هذه الأزمة آخر حلقة في سلسلة من المواجهات الطائفية المتنقلة التي بدأت في الساحل السوري فيمارس 2025[1]، وانتقلت إلى مناطق تقطنها تجمعات درزية كبيرة في محيط دمشق (جرمانا، وأشرفية صحنايا) أواخر أبريل، وبات تكرارها يهدد، مع تعاظم التدخل الإسرائيلي، وحدة البلاد واستقرارها السياسي والاجتماعي.
أولًا: جذور الأزمة
شهدت السويداء التي حاولت أن تتجنب تداعيات الصراع، خلال سنوات الثورة السورية الأولى، مظاهرات واسعة ومستمرة ضد نظام بشار الأسد منذ مطلع عام 2023، وظلت خارج سيطرته حتى سقوطه في كانون الأول/ ديسمبر 2024. حاولت قوات الحكومة السورية الجديدة، بقيادة هيئة تحرير الشام، الدخول إلى السويداء لاستعادة السيطرة عليها باسم الدولة، لكن بعض الزعامات الروحية في المدينة، وعلى رأسها الشيخ حكمت الهجري، والفصائل المسلحة التي تدعمه، وأهمها المجلس العسكري في السويداء - وهو ميليشيا محلية تشكلت بعد سقوط الأسد، ويُعتقد أن لها ارتباطات بإسرائيل - رفضت السماح لها بدخول المحافظة. وفي وقت لاحق أعلن الهجري أنه يرفض الاعتراف بالحكومة الجديدة، والتعامل معها، ووصفها بأنها مجموعة من التنظيمات الإرهابية المتطرفة[2]. وعلى الرغم من الاتفاق على إعادة تفعيل مؤسسات الدولة ودخول محافظ جديد عيّنته دمشق، فإن التوتر ظل سيد الموقف. وتفاقم الوضع على نحو خاص، بعد صدامات ذات طابع طائفي وقعت، في نيسان/ أبريل 2025، في جرمانا وأشرفية صحنايا في ريف دمشق، حيث تقطن غالبية من المواطنين الدروز، وامتدت إلى أطراف محافظة السويداء، بعد انتشار تسجيل صوتي مزوّر منسوب إلى رجل الدين من الطائفة الدرزية، تضمّن عبارات مسيئة للنبي محمد[3]؛ ما أثار موجة غضب واسعة، رافقتها موجة من التحريض والتعبئة الطائفية ونشر الشائعات على منصات وسائط التواصل الاجتماعي. وبلغ التوتر ذروته في 21 أيار/ مايو، حينما اقتحمت مجموعات مسلحة درزية قصر المحافظ واحتجزته، مطالبة بإطلاق سراح أحد الموقوفين بتهم جنائية؛ ما حدا بالمحافظ إلى تقديم استقالته احتجاجًا. لكنه لم يلبث أن عاد إلى عمله، بعد التوصل إلى اتفاق مع أعيان السويداء ووجهائها وبعض فصائلها السياسية والعسكرية، تضمّن أيضًا الموافقة على انضمام نحو ألفَي عنصر من أبناء المحافظة إلى قوات الشرطة والأمن العام، والاستعانة بهم لفرض الأمن في المحافظة.
في 11 يوليو، هاجم مسلحون بدو شاحنة خضار على طريق دمشق - السويداء، فاعتدوا على السائق وسرقوا الشاحنة. أدت هذه الحادثة إلى إطلاق سلسلة من العمليات الثأرية بين البدو والدروز، أيقظت خصومات تاريخية قديمة بين الطرفين، بدأت بعمليات خطف متبادلة لم تلبث أن تطورت إلى اشتباكات مسلحة أسفرت عن سقوط عشرات القتلى والجرحى من الطرفين. في هذا السياق، قررت الحكومة التدخل لوقف القتال، محاولةً فرض سلطتها على المحافظة بعد تلقيها دعوة من أطراف محلية لإنهاء فوضى السلاح. لكن القوات الحكومية وقعت في كمين نصبته لها الميليشيات المعارضة لدخولها المدينة؛ ما أدى إلى مقتل عدد من العناصر وأسر آخرين. وقد أدت معارضة الهجري والقوى العسكرية التي تدعمه، والتي بدا واضحًا أنها تستند أيضًا إلى دعم إسرائيلي، إلى فشل عدة محاولات لوقف إطلاق النار، قبل انسحاب القوات الحكومية من المدينة، خاصة بعد ورود تقارير عن إعدامات ميدانية وانتهاكات ارتكبتها هذه القوات التي تمكنت من السيطرة على مركز مدينة السويداء.
ثانيًا: العامل الإسرائيلي
تحاول إسرائيل، منذ سقوط نظام الأسد، فرض وقائع جديدة في جنوب سوريا[4]، حددها رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في أمرين أساسيين[5]: يتمثل الأول في تحويل منطقة جنوب سوريا الممتدة من الجولان إلى السويداء مرورًا بدرعا وريف دمشق إلى منطقة منزوعة السلاح، يحظر دخولها على قوات الحكومة السورية؛ أما الثاني فهو حماية الدروز، وهو الأمر الذي بات يشكّل، نتيجة وجود امتدادات عائلية ومذهبية درزية بين جنوب سوريا وشمال فلسطين، إحدى الأدوات التي يستثمرها نتنياهو للحصول على مكتسبات سياسية داخلية. وكان المئات من دروز فلسطين عبروا الحدود مع سوريا، في محاولة للوصول إلى السويداء، في الوقت الذي تصاعدت فيه ضغوط القيادات الدينية الدرزية داخل إسرائيل على نتنياهو للتدخل عسكريًا في الأزمة، وهو ما حصل[6]. وقد نفذت إسرائيل غارات جوية أصابت ما لا يقل عن 200 هدف داخل سوريا، استهدف بعضها قوات الحكومة السورية التي كانت تحاول استعادة السيطرة على السويداء من الفصائل المسلحة المحلية، لكن أكثرها لا علاقة له بأحداث السويداء، ومن ضمنها قصف مبنى الأركان العامة في دمشق والإغارة على أبنية تابعة لقصر الشعب، في رسالة الغرض منها النيل من هيبة الدولة السورية. تستغل إسرائيل بوضوح التوترات والانقسامات الطائفية التي تشهدها سوريا، لإعادة رسم المشهد في الجنوب السوري، وصولًا إلى هدفها النهائي المتمثل في تفتيت البلاد إلى كانتونات طائفية. فما إن سقط نظام الأسد، حتى نفذت إسرائيل واحدة من أوسع حملاتها الجوية ضد سوريا، استهدفت مواقع وتجهيزات عسكرية على امتداد الجغرافيا السورية، من أجل إضعاف الدولة وحرمانها من قدراتها العسكرية ومنعها من بسط سيادتها على المناطق الواقعة جنوب دمشق. علاوة على ذلك، أوقفت إسرائيل العمل باتفاق فصل القوات لعام 1974، واجتاحت مناطق واسعة من الأراضي السورية، فاحتلت المنطقة العازلة وقمة جبل الشيخ وصولًا إلى مناطق في ريف دمشق، في محاولة لإنشاء منطقة منزوعة السلاح، وتحويل سوريا إلى دولة منزوعة السيادة عن مناطقها الجنوبية. وتحاول إسرائيل، لتسهيل حصول ذلك، استغلال عجز الإدارة السورية الجديدة عن قيادة حوار وطني وتبني عقلية دولةٍ تمثل جميع المواطنين، لتقديم نفسها باعتبارها حامية للدروز، كما راحت ترسل مساعدات إغاثية، وتعرض مغريات مالية، وخدمية، مما تعجز الحكومة السورية عن تقديمه.
وهذه هي المرة الثانية التي تستخدم فيها إسرائيل القوة ضد وحدات عسكرية تابعة للحكومة السورية، بدعوى حماية المواطنين الدروز السوريين؛ فقد سبق أن نفذ سلاح الجو الإسرائيلي غارات استهدفت محيط بلدة صحنايا في ريف دمشق، في نيسان/ أبريل 2025، تنفيذًا لتعليمات أصدرها رئيس هيئة الأركان باستهداف مواقع تابعة للحكومة السورية، في حال استمرار ما وصفه بـ "أعمال العنف ضد أبناء الطائفة الدرزية"[7]. ولم يتوقف التدخل الإسرائيلي وقتها عند هذا الحد، بل شنت إسرائيل حملة قصف جوي واسعة، شملت محيط القصر الرئاسي في دمشق، إلى جانب العديد من المناطق السورية[8]، اعتبرها نتنياهو ووزير الأمن، يسرائيل كاتس، في بيان مشترك بمنزلة "رسالة تحذيرية" إلى حكومة دمشق لمنع أي أذى قد يلحق بالدروز[9].
لم تقدّر الإدارة السورية الحالية حقيقة الموقف الإسرائيلي وخطورته. فإسرائيل تخطط للسيطرة على أجزاء سوريا الواقعة جنوب دمشق بوصفها منطقة نفوذ لها، أو تقسيم البلاد. ولا تعارض الولايات المتحدة الأميركية الخيار الأول. وترفض إسرائيل الانسحاب إلى خطوط الهدنة من عام 1974، إلا إذا سلّمت الإدارة السورية بالخيار الأول. لقد تبنت الإدارة الجديدة موقفًا متحفظًا، ربما بنصائح عربية وغربية، إلى درجة تجنب حتى إدانة القصف الإسرائيلي والاحتلال في بعض الحالات، وتجنب تكرار الثوابت الوطنية السورية بشأن الجولان وغيره، وكأنه خطاب النظام السابق لا خطاب الدولة الوطنية السورية الذي يوحد الشعب السوري خلفه. وعلى أقل تقدير، لم يؤدِ هذا السلوك إلى النتائج المرجوة، فتمادت إسرائيل في نهجها إلى درجة قصف مباني المؤسسات السيادية. ثمة سوء تقدير للنيات الإسرائيلية، وثمة وهم بإمكانية تحييد دولة الاحتلال التي إذا لم ينجح خيارها الأول سوف تسعى لتقسيم سورية. ولا بد من مواجهة هذه الخيارات. وهذا لا يكون بالاعتماد على دول متحالفة مع إسرائيل وتعتقد أنها تصنع معروفًا للإدارة السورية لمجرد القبول بها، بل اعتمادًا على وحدة الشعب السوري وبناء المؤسسات التي تمثله، فهي قادرة على إفشال مخططات إسرائيل، والتقليل من الاعتماد على نيات حلفائها، وعزل القوى التي تراهن عليها في الداخل.
ثالثًا: أزمة سياسية تجلياتها طائفية وأمنية
تعكس الصدامات الطائفية، التي استهدفت هذه المرة محافظة السويداء، أزمة سياسية عميقة، تتجلى في حالة من العنف الطائفي باتت تتنقل، منذ سقوط النظام، من منطقةٍ إلى أخرى، وذلك في غياب تجريم رسمي للتحريض والتعبئة الطائفيَين وعدم تبني خطاب رسمي يدينهما بصرامة وحزم. وصارت الصدامات على خلفية طائفية تشكل تهديدًا فعليًا لوحدة سوريا الترابية والمجتمعية. وتتزايد خطورتها، نتيجة لانتشار السلاح بيد الأفراد والجماعات المحلية، وامتناع السلطة عن بناء جهاز أمن داخلي وجيش بعقيدة دولة، عقيدة رسمية، لا عقيدة جماعة تسيطر على الدولة، وقوى حفظ نظام تعامل السوريين بوصفهم مواطنين من دون تمييز بموجب الانتماء المذهبي أو الطائفي أو على أساس الجنس، إضافة إلى عجز الإدارة السورية عن ضبط سلوكيات الفصائل المسلحة التي تتصرف باسمها أو ترتبط بها. تفسر هذه العوامل حالة انعدام الثقة بين أجهزة الدولة وأجزاء من الشعب السوري التي لا تعدّ الأجهزة الأمنية السورية ممثلة لدولةٍ تشمل جميع المواطنين، بل تمثل، شكلًا وخطابًا وممارسةً، جماعة عقائدية لديها مواقف مسبقة إزاء جماعات من المواطنين على أساس هويتهم. وعلاوة على ذلك، يشعر جزء مهمّ من السوريين بحالة من التهميش والإقصاء؛ نتيجة الاستئثار بالسلطة من جماعةٍ واحدة، سيطرت على الدولة بعد إسقاط النظام، وانعكس ذلك في جميع الخطوات التي تم اتخاذها، بما في ذلك مؤتمر الحوار الوطني الشكلي الذي أُعدّ على عجل لكي يُحسب أنه عُقد تلبية لمطالب الخارج، إلى الإعلان الدستوري الذي حظر الحياة الحزبية وركّز كل السلطات بيد الرئيس[10]، إلى تشكيل حكومة تبدو حكومة تكنوقراط ولكنها حكومة هيئة تحرير الشام بمشاركة غير حزبيين، حيث غاب التمثيل السياسي الفعلي لمختلف التيارات وفئات الشعب السوري بالحد الأدنى المطلوب في ظروف عدم القدرة على تنظيم انتخابات، وصولًا إلى التباطؤ في إطلاق مسار العدالة الانتقالية والإعلان عن نتائج التحقيق في أحداث الساحل الطائفية. لم يُحاسَب أحد من الذين ارتكبوا جرائم في الساحل السوري، ولا حتى أولئك الذين صوّروا جرائمهم ووثّقوها تباهيًا، بحيث لا تحتاج محاسبتهم إلى انتظار نتائج التحقيق. فكيف تُستغرب الانتهاكات في السويداء؟
إن الغوص في تفاصيل مثل "من بدأ؟"، و"من ارتكب الجرائم الأفظع؟" هو نوع من العبث، ودوران في الدوامة ذاتها، وحرف الانتباه عن القضية الرئيسة التي تنتظر الحل منذ سقوط النظام، إنها مسألة بناء الدولة الحديثة ومؤسساتها، دولة المواطنين جميعًا. لقد سارت الإدارة السورية الجديدة في اتجاه معاكس، تمثّل في سيطرة جماعة على مفاصل الدولة في محاكاةٍ لحكم الحزب الواحد، وتهميش غالبية المواطنين والكفاءات والامتناع عن تمثيل جميع فئات الشعب السوري بحجة رفض المحاصصة، وتبنّي خطابٍ عقائدي لا يناسب تنوّع المجتمع السوري.
تحتاج الإدارة السورية إلى البدء من الداخل، لكي تكون قوية في الخارج ولسد ذرائع التدخل الخارجي في سيادة الدولة، وإلى التعامل مع أحداث السويداء باعتبارها جزءًا من هذه الأزمة السياسية التي تتطلب إعادة نظر في كل الخطوات التي اتُّخذت منذ سقوط النظام، بما في ذلك إطلاق مؤتمر حوار وطني تمثيلي حقيقي، تُدعى إليه القوى السياسية والمجتمعية السورية والشخصيات المستقلة، للاتفاق على "خارطة طريق للمرحلة الانتقالية"، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، برئاسة الرئيس أحمد الشرع، وانتخاب لجنة لكتابة الدستور في إطار مؤتمر الحوار الوطني من شخصيات سياسية وخبراء قانون، وصولًا إلى إنتاج قانون أحزاب وقانون انتخابات جديد[11]. فمن دون تشكّل إجماع وطني سوري على شكل الدولة ونظامها السياسي، بمشاركة جميع السوريين، لن تستطيع سوريا تجاوز المرحلة الانتقالية بيسرٍ وسلام وتهميش من يستقوي بالخارج داخل أي جماعة سكانية ومحاسبته قانونيًا، ووضع حد لتدخلات دولة الاحتلال التي تستهدف وحدة سوريا الترابية والمجتمعية.