العولمة ودوافع الاستياء منها.. مراجعة ثانية: مناهضة العولمة في عصر ترامب

شهد العالم تطورات كثيرة منذ عام 2002، لعل أبرزها أنّ الولايات المتحدة الأميركية، مع إعادة انتخاب الرئيس دونالد ترامب، أضحت قوة فاعلة في تقويض البنية التي أرست دعائم العولمة منذ الحرب العالمية الثانية، بعد أن كانت الداعم الأقوى للتكامل العالمي والنظام الاقتصادي القائم على القواعد.
ووفقًا لدراسة أعدها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ها هي الولايات المتحدة التي أدت دورًا محوريًا في صياغة القواعد، تعبّر اليوم عن استيائها من هذه القواعد ذاتها، ومن طريقة تطبيقها التي لا تنصفها في جوهرها. وقد يلاحظ قرّاء كتاب العولمة ودوافع الاستياء منها أنني، أنا أيضًا، انتقدت ما تكرّسه المؤسسات العالمية، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، من قواعد وسياسات. لكنّ نقدي، الذي يشاركني فيه كثيرون من البلدان النامية والأسواق الناشئة، كان مغايرًا؛ إذ إننا رأينا أن تلك القواعد انحازت إلى الولايات المتحدة وغيرها من البلدان المتقدمة انحيازًا واضحًا، وأجحفت في حقّ الدول النامية.
ليس من المنطقي، ببساطة، أن تكون الولايات المتحدة قد صاغت الاقتصاد العالمي بما يتعارض مع مصالحها في الأمد القريب. ويُظهِر النقاش النظري والتحليل التجريبي اللذان أقدِّمُهما أنّ ترامب مخطئ في تصوّره؛ فالهندسة الاقتصادية العالمية تركت العديد من الدول النامية مثقلة بالديون، التي تفوق تكلفتها ما يُنفَق على قطاعات حيوية كالتعليم أو الرعاية الصحية. وأرست أنساقًا تجارية ذات طابع استعماري جديد، جعلت بلدان الجنوب والأسواق الناشئة مجرد مصدّرَين للموارد الأولية والسلع الطبيعية، وهي منتجات تخضع لتقلبات حادة في الأسعار. أمّا الدول المتقدمة فقد احتفظت لنفسها بإنتاج عالي القيمة. ولم يكن ذلك وليد المصادفة، بل نتيجة تصميم واعٍ للقيود التجارية، كفرض الرسوم الجمركية المتصاعدة. وقد ساهمت برامج التكيّف البنيوي، التي فرضها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، في تقويض جهود التصنيع في أفريقيا، وأدّت إلى هدر ربع قرنٍ من الزمن، فضلًا عن ضياع عقدٍ كامل في أميركا اللاتينية.
غير أنّ البلدان المتقدمة والنامية باتت تشعر، على نحو مبرر، بالظلم.
لنفهم التحولات الجذرية التي تشهدها سياسات العولمة في البلدان المتقدمة، من الضروري أن نفهم أنّ الرأي السائد في ذروة العولمة كان يتجاهل آثار التوزيع الناجمة عنها. وما زلت أذكر ذلك بوضوح منذ كنت في إدارة بيل كلينتون عضوًا في مجلس المستشارين الاقتصاديين ثم رئيسًا له. كنت قادمًا من الأوساط الأكاديمية، حيث تعلّمنا أنّ التكامل العالمي للتجارة مع البلدان النامية (حيث العمالة وفيرة، خاصة اليد العاملة غير الماهرة منها) يؤدي غالبًا إلى خفض الأجور المحلية، وخصوصًا أجور العمال غير المهرة. وإذا لم تكن هذه الأجور مرنة بما يكفي، فقد تنشأ عن ذلك بطالة. وحين عرضتُ هذه التصورات الأساسية، وإن بدت بسيطة، على زملائي، وجدتهم يعبّرون عن إيمانهم بما يسمى الخصائص السحرية لاقتصاد ارتشاح المنافع؛ فالعولمة وفق هذا التصور، من شأنها أن تزيد الناتج المحلي الإجمالي، ومن ثم، تعمّ فائدتها الجميع. وللإنصاف، فقد أقرّ هؤلاء بضرورة تقديم دعم تكيّفي للفئات المتضررة إضافة إلى الاستثمار في التعليم؛ غير أنّ الجمهوريين رفضوا المضيّ في هذا الاتجاه. في المقابل، استمر الديمقراطيون في تعزيز اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية "نافتا"، وباركوا قيام منظمة التجارة العالمية، ووافقوا على انضمام الصين إلى النظام التجاري العالمي. وبالرغم من أنّ التغيرات التكنولوجية ربما تكون مرتبطة أكثر بفقدان الوظائف في قطاع التصنيع، فإن الأميركيين لم يرغبوا في تصديق عجزهم عن التكيّف مع هذه التحولات. وهكذا، حُمِّلت العولمة مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
عبّر ترامب عن مشاعر السخط الناجمة عن تداعيات العولمة، وكان مستعدًا ليحمّل الأجانب مسؤولية المشكلات التي تواجهها الولايات المتحدة. وعندما اختار الديمقراطيون مرشحًا بدا كأنه لن يُجري سوى تغييرات طفيفة على النظام القائم، صوّت الأميركيون لمصلحة مرشح "التغيير" في الانتخابات الرئاسية لعام 2024. ومن الواضح أنّ كثيرين، آنذاك، لم يدركوا حجم التغيير الذي كان ترامب يوشك على إحداثه؛ إذ سرعان ما ظهرت آثاره كـ "كرة هدم" شملت الصعيدَين المحلي والدولي.
إنّ التحوّل الذي دفع ترامب في اتجاهه ولا يزال، يمثّل لحظة مفصلية في النظام الدولي المعاصر، الذي لم يعد يرتكز على قواعد عادلة أو مبادئ عالمية، بل يستند إلى منطق القوة الصرف، في عودة إلى عالم شبيه بعالم القرن التاسع عشر، حيث "القوة تصنع الحق". ولم يكتفِ بإلغاء اتفاقيات تجارية كان قد أيّدها خلال ولايته الأولى، مثل اتفاقية نافتا بين المكسيك والولايات المتحدة وكندا، بل ذهب إلى حدّ التهديد بفرض رسوم جمركية باهظة على دول مجاورة مسالمة، من دون تقديم أيّ مبرر وجيه. وأرى أنّ المبادئ لم تُطبَّق على نحوٍ متّسق في بعض الأحيان؛ فالدعم الزراعي ظل مسموحًا به في الدول المتقدمة، في حين حُرمت الصناعات الناشئة في الدول النامية من الحوافز التي كان يمكن أن تساعدها على اللحاق بركب التنمية. ولم تكن الليبرالية الجديدة، بوصفها الإطار النظري الذي وجّه تلك السياسات، سوى تعبير عن مصالح ذاتية بسيطة. أمّا الآن فنواجه واقعًا مريرًا حيث سيادة القانون المنقوصة قد تكون أفضل من الانحدار إلى شريعة الغاب.
الوباء والاجتياح الروسي لأوكرانيا
شهد العالم، منذ مطلع هذا العقد، حدثين بارزين يتمثلان في جائحة فيروس كورونا المستجد "كوفيد-19" والغزو الروسي لأوكرانيا، وقد ترك هذان الحدثان آثارًا عميقة ومتعددة الأبعاد في مفاهيم العولمة؛ فقد أظهرا ضعفًا جوهريًا في مرونة سلاسل التوريد العالمية، التي لطالما جرى الترويج لها باعتبارها نظامًا فعّالًا يعتمد على مزايا المقارنة لخفض التكاليف وتوفير المنتجات بأسعار أقلّ. غير أنّ الأسواق، بنظرتها الضيّقة وقصر أفقها، لم تأخذ في الحسبان المخاطر التي تعرّض لها الاقتصاد العالمي. وأدى الحدثان إلى تعطيل التدفقات التجارية الاعتيادية؛ وهذا تسبب في ارتفاع معدلات التضخم، مع تداعيات اقتصادية وسياسية بالغة التأثير. وكان من الواضح أنّ أوروبا قد بالغت في اعتمادها على الغاز الروسي، وقد سبق أن حذّرتُ من مخاطره في كتابي الصادر في عام 2006، بعنوان تفعيل العولمةMaking Globalization Work. وألحقت أوروبا بأوضاعها الاقتصادية مزيدًا من الضرر، من خلال الطريقة التي جرى بها تحديد أسعار الكهرباء؛ إذ إن بعض البلدان شهدت زيادات بلغت ثمانية أضعاف أو أكثر، استجابةً للارتفاع الحادّ في أسعار الغاز، وهذا ولّد ضغطًا هائلًا على الأسر والأعمال التجارية الصغيرة، وأدى إلى حالات إفلاس ومعاناة. وكان ذلك تجسيدًا آخر لسيطرة الاقتصاد العقائدي على الحكمة العملية؛ فمع غياب المعرفة الدقيقة بطول أمد الحرب في أوكرانيا، كانت حوافز التكيّف على جانبَي الطلب والعرض محدودة. وكانت آثار تخصيص الزيادات في الأسعار ضئيلة مقارنة بآثار التوزيع. ومع ذلك، أظهرت تجارب بعض البلدان، مثل إسبانيا والبرتغال، أنّ هنالك بدائل أفضل.
وكشف وباء كوفيد-19 أيضًا عن قصور جوهري في مجالَين آخرَين من مجالات العولمة، وهما المعرفة والتكنولوجيا. فقد تطلّب الوباء استجابة عاجلة تضمن توفير اللقاحات والعلاجات في وقت قياسي، خاصة في ظل المخاوف من ظهور طفرات أخطر وأكثر فتكًا وقابليةً للانتقال. وعلى الرغم من أن الحكومات، وعلى رأسها الولايات المتحدة، كانت تموّل معظم البحوث المتعلقة بمنتجات كوفيد-19، فإنّ شركات الأدوية أعطت الأولوية للأرباح على حساب الأرواح. وطالبت جنوب أفريقيا والهند بالتنازل عن حقوق الملكية الفكرية الخاصة بهذا الوباء، وانضمت إليهما في ذلك أكثر من مئة دولة؛ بحجة ضرورة إشراك كل من يمتلك قدرات إنتاجية في الجهود العالمية لمكافحة الوباء. وكان المصنّعون الذين يستخدمون الملكية الفكرية يدفعون إتاوات، ولم يمثّل ذلك مشكلة حقيقية، بل كانت شركات الأدوية تتخوّف من أن تؤدي زيادة المنتجين إلى تقليص الأرباح الاحتكارية، ونجحت هذه الشركات في مقاومة أيّ تغيير.
وأدى التضخم واستجابات البنوك المركزية في مختلف أنحاء العالم إلى تفاقم مشكلة ثالثة، تمثلت في تصاعد مديونية البلدان النامية والأسواق الناشئة. فقد ضرب الركود الناجم عن الجائحة هذه البلدان بشدة. وتراجعت عائداتها الضريبية في ظل تزايد الإنفاق على القطاع الصحي. وافتقرت إلى الحيز المالي، الذي أتاح لأوروبا والولايات المتحدة اعتماد سياسات توسعية واسعة النطاق. وتوالت الأزمات على هذه الدول، فبعد أن أرهقها ارتفاع أسعار النفط والمواد الغذائية، وجدت نفسها مجددًا في مواجهة ارتفاع حادّ في أسعار الفائدة العالمية. ونتيجة لذلك، بلغ العديد منها مستويات مقلقة من العجز عن تسديد الديون. لكنّ الهندسة العالمية لإدارة أزمات الديون لم ترتقِ إلى حجم التحدي. فبينما أبدى صندوق النقد الدولي استعداده لتقديم قرض ضخم للأرجنتين (تمثل في التزام مدة أربع سنوات بقيمة 20 مليار دولار، صُرف منها 12 مليار دولار على الفور)، كانت البلاد، في الواقع، عاجزة عن سداد القرض السياسي السابق البالغ 44 مليار دولار، الذي تلقّته خلال الولاية الأولى لترامب. أما المساعدات المقدَّمة إلى الدول الأخرى المثقلة بالديون في قارّتَي أفريقيا وآسيا فقد ظلت أقلّ بكثير.
الصين
يظهر تحوّل آخر كبير في الجغرافيا السياسية والاقتصادية يتمثل في الصين وعلاقتها بالولايات المتحدة خصوصًا. فقبل عقد من الزمان، تفوّقت الصين على الولايات المتحدة وغدت الاقتصاد الأكبر عالميًا وفقًا لمعيار تَعادُل القوة الشرائية، وهو المقياس المعتمد لدى خبراء الاقتصاد لمقارنة أداء اقتصادات البلدان. وقد بدا في نظر كثيرين أن صعود الصين يشكّل تهديدًا للولايات المتحدة، وهذا استدعى ردود فعل عدوانية بدأت خلال ولاية الرئيس ترامب الأولى، وزادت في عهد الرئيس جو بايدن؛ فقد أُبقيت التعرفات الجمركية والقيود المفروضة على الصادرات، بل جرى توسيع نطاق بعضها. وأدركت الولايات المتحدة أنها تعتمد اعتمادًا كبيرًا على رقائق الكمبيوتر الدقيقة المستوردة من تايوان، والعناصر الأرضية النادرة والمعادن الحيوية من الصين. وقد اتُّخذت تدابير حاسمة لمعالجة هذا الاعتماد، أبرزها إقرار "قانون الرقائق والعلوم" في عام 2022، ولم تُبذل جهود كافية للحدّ من الاعتماد على الموارد الطبيعية الصينية. وإضافة إلى ذلك، أقرّت إدارة بايدن، بخلاف إدارة ترامب، بمخاطر تغير المناخ والحاجة الماسّة إلى انتقال بيئي عادل ومستدام، وسياسات تتوافق أكثر مع ضرورات التحول الأخضر. لم يكن القطاع الخاص، وحده، قادرًا على التحرك بالسرعة المطلوبة؛ لذلك أعادت إدارة بايدن إحياء السياسات الصناعية من خلال تقديم إعانات ضخمة تهدف إلى إعادة تشكيل قطاعات في الاقتصاد. وكان ذلك انقلابًا لافتًا على السياسة الأميركية التي طالما تبنّتها الولايات المتحدة (مع أنّ آثار هذا التحول كانت أقل بكثير من السياسات التي انتهجها ترامب خلال ولايته الأولى). وعلى مدى أعوام، طالبت الولايات المتحدة البلدان النامية والأسواق الناشئة بالامتناع عن تبنّي سياسات مشابهة. ومع التحدي الأميركي الصريح لقواعد منظمة التجارة العالمية، كانت مكانة النظام التجاري الدولي القائم على قواعد ملزمة قد تقوّضت حتى قبل أن تبدأ الولاية الثانية لترامب.
وإذا كانت الولايات المتحدة تزعم أنها تحتاج إلى سياسات صناعية من أجل تعزيز تفوّقها التكنولوجي، فإن البلدان النامية والأسواق الناشئة لها حجج أكثر وجاهة لتبنّي هذا النهج. غير أن ما ينقصها هو الموارد. وحتى أوروبا لا تُخفي قلقها، على الرغم مما تتمتع به من قدرات. وقد حاولت منظمة التجارة العالمية توفير حدٍّ أدنى من التكافؤ، ويبدو أن هذه الجهود تراجعت إلى الهامش.
وأدى تجدد الاهتمام بالسياسات الصناعية إلى تحفيز مسارات بحثية جديدة تتناول الآثار البعيدة المدى للتجارة، وأسهم في بلورة رؤى تحليلية مثيرة للاهتمام تخص العلاقة التفاعلية بين التجارة والاستثمار ونقل المعرفة. أما التصوّر السائد بشأن التجارة والاستثمار، فيرى أن التكنولوجيا في معظمها ثابتة أو على الأقل غير متأثرة بالسياسة. لكنّ التجارة والاستثمار يؤثران في المعرفة. وتنتقل المعرفة داخل حدود الدولة الواحدة بسهولة أكبر من انتقالها بين البلدان؛ وتفسح بعض القطاعات المجال للتعلم أكثر من غيرها؛ ويحدث التعلّم في سياق الإنتاج والاستثمار؛ وفي ظل غياب سياسات ملائمة، تميل الشركات الأجنبية إلى الحدّ من مساهمتها في نقل المعرفة إلى الاقتصادات المحلية. وبناء على ذلك، فإن التجارة الحرة، أو حتى الانفتاح التجاري المتزايد، قد لا تقتصر آثارهما السلبية على البلدان الفقيرة (وهذا يساعد على تفسير ترسّخ أنماط التجارة الاستعمارية الجديدة)، بل قد تفضي أيضًا إلى تباطؤ معدلات النمو الاقتصادي العالمي.
في المقابل، استفادت الصين استفادة كاملة من العولمة في تعزيز قاعدتها المعرفية. ولم تعد مزاياها التنافسية تقتصر على اليد العاملة المنخفضة المهارة، كما كان الحال قبل بضعة عقود، بل أصبحت، في عدد من المجالات، ذات ميزة نسبية في القطاعات التي تتطلب مستويات متقدمة من الكفاءة الهندسية والتصنيع المعقد. ويتجلى ذلك بوضوح في ريادتها لعدة مجالات محورية في مسار الانتقال الأخضر، مثل صناعة الألواح الشمسية، وتكنولوجيا البطاريات، وتصنيع السيارات الكهربائية. ولعل هذه الميزة النسبية المتغيرة من أبرز العوامل التي تثير مخاوف الولايات المتحدة.
إعادة النظر في العولمة
أوضحتُ في كتاب العولمة ودوافع الاستياء منها أن العولمة مضت في مسارها ضمن إطار من الحوكمة العالمية من دون وجود حكومة عالمية فعلية؛ أي في ظل غياب المساءلة الديمقراطية والشفافية اللازمتَين لوضع قواعد وسياسات عادلة وفعّالة. وقد ذكرتُ ملاحظة متفائلة مفادها أنّ الاعتراف بتفاقم مظاهر اللامساواة ربما يشكّل حافزًا لإطلاق إصلاحات تُفضي إلى نظام عالمي أفضل. لكن عليّ أن أعترف اليوم بأن هذا التفاؤل لم يستند إلى أسس صلبة. فلطالما أدّت القوة دورًا محوريًا في السياسة الداخلية، وها هي الآن مع ترامب تؤدي دورًا أشد تأثيرًا على الصعيد الدولي. وبناء عليه، ما الذي يدفع الدول القوية إلى تقييد نفسها؟ مع ذلك، لعلّ المفارقة الأهم في المرحلة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية أنّ الولايات المتحدة وأوروبا، سعتا، بدرجات متفاوتة، وبما لا يُرضي كثيرًا من الدول النامية، إلى ضبط نفوذهما.
والآن، وقد بات ترامب يدعو إلى العودة إلى عالم تحكمه القوة وحدها، يُطرح هذا التساؤل الجوهري: ما مستقبل العولمة في ظل هذا التحول؟ يجب أن نلاحظ أولًا أن الولايات المتحدة لا تملك أوراق ضغط بقدر ما يتوهّم ترامب. فهي لا تزال تعتمد اعتمادًا كبيرًا على مصادر خارجية في توفير مدخلات استراتيجية، بما في ذلك العناصر الأرضية والمعادن النادرة التي سبق ذكرها؛ وسوف يستغرق الأمر وقتًا طويلًا قبل أن تتمكن من إعادة بناء قدرتها التصنيعية، هذا من دون التطرّق إلى حقيقة أن اقتصادات القرن الحادي والعشرين ترتكز أساسًا على قطاعَي الخدمات والمعرفة. وقد ألحقت حرب ترامب على الجامعات الأميركية، وعلى الزوار والطلاب الأجانب، أضرارًا فادحة بالميزة التنافسية الأميركية في قطاعات حيوية، لم يكن ليحققها حتى ألدّ خصومها.
وبات من المسلّم به أن الحدود مهمة، وأن الطموح إلى عالم بلا حدود، أو حتى إلى عالم تحكمه منظومة واسعة من القواعد التي تنظّم العولمة وتعالج الآثار الخارجية العابرة للحدود على نحو فعّال، يبدو أمرًا بعيد المنال في الوقت الراهن. فحين تؤثر سياسات بلد ما في رفاه بلدان أخرى، تظل آليات التعاون الدولي قاصرة عن الاستجابة الكاملة. وأقصى ما يمكن التعويل عليه في هذه المرحلة هو إبرام اتفاقيات محدودة النطاق، تضع حدًا لأبشع الممارسات، وتعزّز أوجه التعاون في المجالات التي تحقق أكبر قدر من المكاسب.
لا شك في أن الفشل في بناء عولمة أكثر عدلًا وفاعلية سيجعل الجميع في موقع أسوأ. ومع ذلك، فإن هذا الواقع يبقى أقل سوءًا من عولمة تتسيّد فيها القوة المنفلتة من كل قيد.