من قلب الجبل، وفي عمق الجنوب السوري، تشتعل نيرانٌ ليست كسابقاتها. الغارات الإسرائيلية التي هزّت امس مواقع في العمق السوري لم تكن مجرد ردّ على تموضع إيراني أو رسالة عابرة لطهران، بل جاءت كفصل جديد في مخطط أوسع يعيد ترتيب الأوراق على الأرض السورية، ويُربك مشهد السلطة الذي يُراد له أن يُولد جديدًا في دمشق، تحت واجهة ناعمة اسمها “أحمد الشرع”.
الغارات الإسرائيلية، التي ضربت أهدافًا عسكرية في السويداء وريف دمشق، لم تكن بلا توقيت. إنها تأتي وسط توتر متصاعد في الجنوب، واحتقان اجتماعي – طائفي في السويداء، وتصعيد درزي غير مسبوق ضد مركزية الدولة. الرسالة واضحة: إسرائيل لم تعد تكتفي بالمراقبة من خلف الحدود، بل تدخل اليوم كطرف مباشر في تحديد ملامح ما بعد الأسد، وما بعد الحرب، وما بعد التسوية المفترضة.
لكن الغارات تحمل ما هو أبعد من البعد العسكري. إنها إعلان مبكر عن خطوط حمراء جديدة، ورسم ملامح لصيغة الحكم المقبلة، وحدود الدور الإيراني، ومدى اتساع رقعة الفوضى المسموح بها، في الجنوب على الأقل.
•••
السويداء، ذات الغالبية الدرزية، تعيش لحظة دقيقة من تاريخها؛ بين رفض الخضوع لمعادلة ما بعد الثورة، والبحث عن كيان أو صيغة تحفظ خصوصيتها، وتمكنها من مقاومة تغوّل المركز. القوى الدرزية المسلحة – وعلى رأسها “قوة مكافحة الإرهاب” – باتت تمتلك قدرة اشتباك ميدانية، وأفقًا سياسيًا، وشبكة دعم غير خفية، تجعل منها طرفًا لا يُمكن تجاوزه في معادلة الجنوب.
لكن الأخطر هو ما يرشح من تقارير دولية وإقليمية حول اتصالات غير معلنة بين قيادات درزية في السويداء وجهات أمنية إسرائيلية، تهدف – كما يُقال – إلى “تأمين الجبل”، مقابل تحييده عن صراع المحاور، وربما منحه حيزًا من الحكم الذاتي لاحقًا.
انتقال الجيش الإسرائيلي إلى الجبهة السورية، اليوم، لم يكن تحركًا دفاعيًا بحتًا. إنه تموضع سياسي–عسكري، يسبق على الأرجح ترتيبات أكبر، تتصل بمفاوضات إقليمية تُطبخ في الخفاء، حيث تصبح الجبهة الجنوبية صندوق رسائل دائم: إلى دمشق، وطهران، والوسطاء الدوليين.
إنها ليست غارات لوقف تهريب السلاح أو تفكيك رادارات، بل جزء من خطاب سياسي بالسلاح، يقول: الجنوب خارج الحسابات المركزية، والخرائط تُرسم على وقع الضربات، لا المؤتمرات.
•••
وسط هذا المشهد المتفجر، لا يمكن فصل صعود أحمد الشرع إلى رأس السلطة عن سياق التدخلات الدولية في إعادة هندسة السلطة داخل سوريا. فالشرع لم يأتِ من خلفية تكنوقراطية أو مسار إصلاحي داخلي كما حاول البعض تصويره، بل صعد من جذور جهادية سابقة، جرى ترويضها وتأهيلها ضمن معامل سياسية وأمنية غربية، ليكون واجهة مُهيأة لأداء أدوار مرسومة مسبقًا، وفق أجندات ترتبط بتفاهمات أمنية، لا بتفويض شعبي.
إن حضوره على رأس النظام الجديد لا يُمثّل قطيعة مع الماضي، بقدر ما يعكس تحوّلاً محسوبًا في أدوات الحكم وشكل الدولة، لا جوهرها. وهو ما يجعل اختباره في السويداء أكثر حساسية: هل يُعيد إنتاج مركزية أمنية بأساليب ناعمة؟ أم يسعى إلى بناء شرعية حقيقية عبر تسويات داخلية وشراكات وطنية؟
الغارات الإسرائيلية تُربكه بلا شك، لكنها أيضًا تكشف موقعه داخل الخارطة: شريك محدود الصلاحيات، مقيّد بهوامش الدور، ومطلوب منه أن يُمسك بالوطن دون أن يُسيطر عليه، وأن يفاوض الجبل دون أن يُزعج الحلفاء.
•••
الخطر الآن ليس فقط في اتساع رقعة الاشتباك، بل في احتمالية تحول السويداء إلى بؤرة مواجهة إقليمية ودولية، تحت عنوان “حماية الأقليات” أو “الحكم الذاتي”، وهو ما قد يُعيد إلى الأذهان سيناريوهات قاتمة شبيهة بما جرى في شمال العراق، أو جنوب لبنان ذات زمن.
هل يمضي الدروز نحو فك الارتباط الكامل مع المركز؟ أم أن التسويات المرتقبة ستمنحهم ما يكفي للبقاء في جسد الدولة دون الخضوع لرأسها؟
•••
ما يجري في السويداء ليس معزولًا عن جبل لبنان، حيث الحضور الدرزي فاعل ومؤثر. أي اختلال في توازنات الجبل السوري سينعكس حتمًا على المشهد اللبناني، خصوصًا إذا واصلت إسرائيل تمددها داخل المسألة الدرزية، وحاولت إعادة استنساخ “كمشة بشير الجميل” في الجنوب السوري.
كما أن تحولات سوريا الجديدة ستعيد رسم ميزان القوى في لبنان: من يمسك بمفاتيح الجبل، يمسك بأحد مفاتيح التوازن في بيروت.
•••
السؤال الآن لم يعد: من ينتصر؟ بل: هل تبقى سوريا كما نعرفها؟ وهل يستطيع نظام أحمد الشرع أن يُمسك بالجدار قبل أن يتشقق؟ أم أنه سيُدفع ليحكم جغرافيا مُمزقة، بطوائف قلقة، وحدود مفتوحة على كل الاحتمالات؟
إن ما يجري في السويداء، وما تتعرض له من ضربات ومؤامرات، ليس إلا اختبارًا مبكرًا لسوريا الجديدة… ولسقف الشرعية التي سيبني بها الشرع دولته.