السويداء.. ساحة مفتوحة بين مطامع إسرائيل وتشرذم القيادة الدرزية

اتّسم الوضع في السويداء بالكثير من التعقيد، فبينما كانت القوات الحكومية السورية تتجه إلى المدينة لفض اقتتال بين البدو والدروز، أصبحت فجأة جزءًا من الأزمة، فيما كانت إسرائيل، التي تتربص بالمدينة، وعلى رفّ مخططاتها الكثيرة، أجندة منذ قديم الأزل لها، قد دخلت على خط الصراع وهاجمت القوات الحكومية لمساندة الدروز.
وفي الوقت الذي تداخلت فيه كل هذه القوى في مشهد معقّد، تعرّض البيت الدرزي لشروخ وانقسامات، فقسم اتّخذ صف الدولة، وآخر اتّخذ جانب الاحتلال.
وفيما يلي التفاصيل الكاملة للأزمة في السويداء، التي تم احتواؤها إلى حدّ ما - بعدما بدأت القوات الحكومية السورية في الانسحاب منها - ولكن لم تُحل من جذورها.
شرارة البداية
في البداية، كانت شرارة الأزمة في السويداء بسبب اقتتال بين الدروز والبدو، سببه حادث سرقة تعرّض له سائق درزي على طريق السويداء - دمشق، تلاه هجمات درزية على مواقع البدو انتقامًا ونصرة لابنهم المتضرر.
هاجم الدروز البدو، واستغلّوا ما حدث للسائق الدرزي لتحرير عدد من أبناء الطائفة كانوا بحوزتهم، واستمرّت بعد ذلك عمليات الاختطاف المتبادل والاشتباكات.
حاول الجيش السوري في البداية التفريق بين الطرفين، إلا أنه - كما يُقال في المثل الشعبي المصري “ما ينوب المخلّص إلا تقطيع هدومه” - سقط ستة من رجاله قتلى.
واعتبرت الدولة السورية أن ما يحدث سببه الأول هو السلاح المنفلت في الجنوب السوري، وأن غياب المؤسسات الأمنية عن السويداء (الذي يعود للاعتبارات الطائفية والتهديدات الإسرائيلية، إذ يتعهد الاحتلال إسرائيل بحماية الدروز)، ثم بدأت في تحريك رجالها نحو المدينة لحفظ الأمن.
من جانبها، استنكرت الرئاسة الروحية للدروز ما حدث، ودعت الحكومة إلى تأمين طريق السويداء - دمشق، الذي كانت بداية الأزمة على طرقاته.
بعدها، أصدرت المشيخة بيانًا رحّبت فيه بدخول القوات السورية إلى المدينة لحفظ الأمن، ودعت أبناءها الدروز إلى عدم مقاومتها وتنظيم سلاحهم بإشراف الدولة.
الهجري يتراجع ويعقد المشهد
فجأة، أعلن الشيخ حكمت الهجري (أحد مشايخ عقل الطائفة الدرزية الثلاثة، وهم: الشيخ يوسف جربوع والشيخ حمود الحناوي) تراجعه عن بيان رئاسة المشيخة الذي رحّب بدخول القوات السورية إلى السويداء.
وقال الهجري إنه أُرغم على إصدار البيان في البداية، إلا أنه تراجع لأنه، وفق زعمه، نكثت دمشق العهد والوعد، واستمرّ القصف العشوائي للمدنيين العزّل.
وعندما دخلت القوات السورية إلى السويداء، تعرّضت لعدة كمائن واستهدافات، واندلعت الفوضى والمعارك في المدينة.
فيما ارتكبت القوات السورية عدة انتهاكات وجرائم بحق المدنيين، وهو ما اعترفت به الرئاسة السورية، وتوعّدت مرتكبي تلك الانتهاكات والجرائم بالحساب دون أي اعتبارات.
طبيعة الدور الإسرائيلي
وعلى الرغم من أن كل ما حدث كان شأنًا سوريًا داخليًا، إلا أن إسرائيل لم تترك الفتنة دون أن تضع بصمة يد فيها، إذ وجّهت عدة ضربات للقوات والنظام السوري، كانت بدايتها أول أمس، حين قصفت رتل دبابات متوجهًا إلى السويداء.
وعودة إلى التاريخ لفهم طبيعة الدور الإسرائيلي وأهدافه في الأزمة، فإنه وبعد احتلال الجولان في نكسة ١٩٦٧، وضع إيغال آلون، أحد السياسيين الإسرائيليين التاريخيين، خطة للتوسع داخل سوريا وتأسيس دولة درزية من محافظة السويداء جنوب سوريا حتى جبل الشوف ذي الأغلبية الدرزية في لبنان.
وكان احتلال الجولان فرصة لربط الدولتين ببعضهما، ثم تأسيس دولة علوية على الساحل تكون حليفة لها، ودولة للأكراد في الشمال، ودولة سنية في الداخل تكون محاصرة من جميع حلفاء إسرائيل في كل سوريا، وذلك وفقًا لمقال Passed Over, Yet Again المنشور في صحيفة “هآرتس” بتاريخ 27 يوليو 2007، وورقة بحث “الجولان السوري بين التهجير والاحتلال”، لثائر أبو صالح ابن الزعيم الدرزي أسعد كنج أبو صالح.
ووفقًا لما ذُكر أعلاه، فإن السويداء مطمع لإسرائيل منذ القدم، وهي على أهبة الاستعداد لقضمها من سوريا والشروع في تقسيمها طائفيًا.
وعلى الرغم من أن إسرائيل تزعم حماية الدروز من القوات السنية المنضوية تحت قيادة الشرع، والتي كثير منها متطرف ومتورّط في انتهاكات باعتراف الرئاسة السورية نفسها، فإن تلك المزاعم يمكن تفنيدها بسهولة، لا سيما وأن الاحتلال ترك الدروز يلقَون مصيرًا وحشيًا على أيدي تنظيم داعش في عام ٢٠١٨.
وفق تقديرات المراقبين، فإن إسرائيل لا تحمي الدروز ولا تلقي لهم بالًا، لا سيما وأن دروز الجولان لا يزالون متمسّكين بهويتهم السورية ورفضوا التجنيس، بل تستخدمهم كورقة سياسية لزعزعة الأوضاع في سوريا الجديدة، التي لا تزال في طور الولادة من الخاصرة، وتريد تل أبيب تعسير هذه العملية.
ومن ضمن أهداف إسرائيل جعل الجنوب السوري منطقة عازلة منزوعة السلاح، وتريد وقف اندماج السويداء ذات الموقع الاستراتيجي في الدولة السورية.
وما يساعد إسرائيل على تدخلها في الشأن السوري، وخاصة في ملف الدروز، هو غياب القيادة الواحدة للطائفة، لا سيما وأنها تُقاد من ثلاثة رجال مختلفي التوجّه والأفكار.
أهمهم هو الشيخ حكمت الهجري، المعروف بمواقفه الانفصالية (فقد طالب مسبقًا بالحماية الدولة للدروز)، وعدائه للحكومة السورية، وتقاربه مع إسرائيل.
العودة للهدوء بسبب الاتفاق مع جربوع
أما الشيخان الآخران، فموقفهما من الدولة والحكومة وازن نسبيًا، وكان لهما دور في تهدئة الأوضاع، إذ أعلن الشيخ يوسف جربوع عن وقف إطلاق النار بالأمس، والذي بموجبه انسحبت قوات الجيش السوري من المدينة، وأعلن أنها ستنضوي داخل الدولة، وتوكيل مهام حمايتها لأبناء الطائفة الدرزية المنتسبين للشرطة والشرطة، وإنشاء لجان تقصي حقائق لمحاسبة المنتهكين والمجرمين.
إلا أن الهجري رفض ذلك الاتفاق، ودعا إلى الاستمرار في مقاومة القوات السورية، وبالفعل اشتبكت الفصائل التي تأتمر بأمره مع الجيش السوري، إلا أن قوات الجيش انسحبت لاحقًا من المدينة لتعود الأمور إلى الهدوء.
فهل انتهت الأزمة، أم أن الهدوء النسبي الذي عادت إليه السويداء، رماد يخفي تحته نارًا؟ هذا ما ستكشف عنه الأيام المقبلة.