ما بين صمت الجبال وصخب البنادق، تتكشف فصول دامية في محافظة السويداء السورية، حيث تتصاعد وتيرة العنف بشكل غير مسبوق، لتتحول منطقة لطالما عُرفت بالحياد النسبي إلى بؤرة صراع تتشابك فيها الخيوط الطائفية مع الحسابات الإقليمية، ويشتبك فيها الداخل السوري المنهك بمحاولات الخارج لرسم مستقبل البلاد على مقاساته.
لم تعد الأحداث المتسارعة في السويداء مجرد حوادث أمنية متفرقة، بل هي مؤشرات على تحوّل استراتيجي خطير في بنية الدولة السورية، ومستقبل مشروع الحكم الجديد بقيادة أحمد الشرع، الذي يبدو حتى اللحظة عاجزًا عن ضبط إيقاع الجنوب، أو تقديم نفسه كسلطة جامعة بديلة لنظام الأسد المتهالك.
•••
السويداء التي ظلت، منذ بداية الحرب السورية، على هامش الجبهات الساخنة، دخلت الآن دائرة العنف المسلح.
مواجهات عنيفة اندلعت بين مجموعات درزية محلية – بعضها تحت راية “قوة مكافحة الإرهاب” – وميليشيات موالية للنظام السوري أو محسوبة على شبكات التهريب المرتبطة بالحرس الثوري الإيراني.
الشارع الدرزي، الذي عبّر طويلًا عن رفضه للانخراط في حرب لا تعنيه، وجد نفسه فجأة وسط ساحة قتال مفروضة، لا اختيارية.
والأخطر أن هذا التصعيد لم يعد مجرد صراع محلي على النفوذ أو الأمن، بل تحوّل إلى مشهد مركّب من العنف المنظّم، والاستهداف المتبادل، ومحاولات السيطرة على مناطق نفوذ داخل المحافظة، وسط تواطؤ أمني مكشوف، وصمت مركزي مريب من دمشق.
•••
أحداث السويداء تأتي في لحظة فارقة من التحول السياسي الذي يشهده النظام السوري، بقيادة أحمد الشرع، الذي طُرح كبديل “مدني توافقي” يحظى بقبول دولي وإقليمي.
لكن الجنوب، الذي ظلّ خارج سيطرة النظام طيلة السنوات الماضية، لم يُظهر بعد استعدادًا حقيقيًا للاعتراف بشرعية السلطة الجديدة، ولا اندماجًا عمليًا في مشروعها.
بل على العكس، تعكس الاشتباكات المتكررة في السويداء ارتيابًا عميقًا من أن يكون “تغيير النظام” مجرّد واجهة لاستمرار القبضة الأمنية، أو لإعادة إنتاج النظام القديم بثوب جديد.
والأكثر خطورة أن فشل الشرع في احتواء الموقف، أو حتى مخاطبة أهل السويداء بخطاب شفاف، يضعف صورته كزعيم انتقالي لسوريا ما بعد الحرب، ويثير شكوكًا حول قدرته على الحكم خارج أسوار العاصمة.
•••
لا يمكن قراءة ما يحدث في السويداء بمعزل عن التدخل الإسرائيلي المتزايد في الجنوب السوري.
ففي ظل تفكك الدولة المركزية، وسقوط خطوط التماس التقليدية، صعّدت إسرائيل عملياتها الأمنية والعسكرية، تحت غطاء “منع التمدد الإيراني”، لكنها في الواقع تبني شبكة نفوذ غير معلنة على تخوم حدودها الشمالية.
وقد كشفت الأحداث الأخيرة عن ضربات دقيقة نفذها الجيش الإسرائيلي ضد مواقع يُعتقد أنها تضم ميليشيات إيرانية أو مخازن أسلحة، قرب مناطق الاشتباك في السويداء، في رسالة مزدوجة: ردع طهران، وتوسيع دائرة النفوذ في سوريا المفككة.
لكن الأخطر من الغارات، هو ما يتردد – وإن بصوت خافت – عن اتصالات إسرائيلية غير مباشرة مع فصائل درزية في الجبل، بحجة “الحماية من النظام”، وهو ما يعيد إلى الأذهان سيناريو “جيش لبنان الجنوبي” الذي وظّفته تل أبيب لعقود في الجنوب اللبناني، قبل أن تتخلى عنه في لحظة سياسية.
•••
الطائفة الدرزية في سوريا، رغم صغر حجمها العددي، تُعد لاعبًا حساسًا في التوازن الطائفي والجغرافي للبلاد.
وتاريخيًا، عرف الدروز بولائهم للأرض، وحرصهم على تجنّب الصدامات الدموية.
لكنهم اليوم محاصرون بين عنف النظام، وتهديد الميليشيات الإيرانية، وإغراءات الدعم الخارجي، في لحظة فراغ سياسي خطرة.
الانقسام داخل المجتمع الدرزي بين من يرى ضرورة البقاء ضمن الدولة السورية، ومن ينجذب إلى فكرة الحكم الذاتي أو الحماية الدولية، ينذر بتحوّل قد يهدد وحدة البلاد، إذا لم يُبادر النظام الجديد إلى مصالحة حقيقية، لا تكرّس المركزية، بل تمنح المجتمعات المحلية شراكة فعلية في الحكم.
•••
للسويداء مرآة لبنانية لا يمكن تجاهلها.
الارتباط الجغرافي والعرقي بين دروز سوريا ولبنان يجعل من أي اشتعال في الجبل السوري إنذارًا مبكرًا للجبل اللبناني.
وتتابع القيادات الدرزية في بيروت – وفي مقدمتها تيمور جنبلاط – المشهد بقلق بالغ، إدراكًا منها أن الفوضى في السويداء قد تُستَخدم لتقويض الدور السياسي للدروز في المعادلة اللبنانية، أو لدفعهم إلى اصطفافات إقليمية خطرة.
كما أن أي تدخل إسرائيلي مباشر في جنوب سوريا سيُعتبر – حتمًا – تهديدًا غير مباشر لحزب الله في خاصرته الشرقية، ما قد يفتح جبهة جديدة في لبنان، أو يسرّع من تدويل الأزمة السورية عبر الحدود.
•••
في المجمل، ما تشهده السويداء اليوم ليس حدثًا عابرًا، بل عنوان أزمة بنيوية في مشروع الدولة السورية.
وما لم يتحرك النظام الجديد بقيادة أحمد الشرع نحو تهدئة حقيقية، تشمل الاعتراف بالمطالب المشروعة للطائفة الدرزية، وتفكيك بنية الميليشيات، والتصدي لتدخلات الخارج، فإن الجنوب قد ينفجر على نحو لا يمكن احتواؤه.
والأهم أن شرعية النظام الجديد – في عيون الداخل والخارج – لن تُقاس بخطاباته أو مؤتمراته، بل بقدرته على ضبط السلاح، واحتضان التنوع، وترميم الهوية الوطنية التي تصدّعت على مدى عقد من الدم والحصار.
إن السويداء اليوم تقف على مفترق طريق:
إما أن تكون بوابة لوحدة وطنية جديدة،
أو ثغرة يدخل منها التقسيم المتربّص بسوريا كلها.