عاجل

قرية إمياي.. قلعة الجريد في القليوبية تنهض بالإنتاج وتُحاصرها الأزمات

صناعات الجريد
صناعات الجريد

 

في قرية صغيرة قد لا تلمحها خرائط المدن الكبرى، نجح الأهالي في أن يصنعوا لأنفسهم مجدًا من جريد النخيل. قرية إمياي التابعة لمركز طوخ بمحافظة القليوبية، لم تكن يومًا مجرد قرية ريفية، بل باتت نموذجًا نادرًا لقرية مصرية قررت أن تواجه الفقر بالحرفة وتنتصر على البطالة بالعمل الجماعي. لا وجود للعاطلين بين أبنائها، فالكل يعمل والكل ينتج والكل يؤمن أن اليد التي تعمل أكرم من اليد التي تنتظر.

ورغم أن القرية تشكّل واحدة من أهم مراكز الصناعة اليدوية في دلتا مصر، إلا أن صُنّاعها يعملون في صمت، بلا حماية اجتماعية أو صحية، وبلا دعم حقيقي يضمن استدامة هذه الحرفة التراثية التي تطعم آلاف الأسر.

منذ عقود طويلة، توارث أبناء إمياي صناعة الأقفاص والكراسي والطاولات من جريد النخيل، فصارت هذه المهنة المتوارثة هي العمود الفقري لاقتصاد القرية، ويعتمد عليها آلاف المواطنين كمصدر رزق أساسي. تضم إمياي ما يزيد على 500 ورشة يدوية يعمل بها أكثر من 3 آلاف عامل، من مختلف الفئات العمرية، حيث يشارك الشباب والنساء والأطفال جنبًا إلى جنب في إنتاج القطع اليدوية وتوزيعها في الأسواق المصرية.

يقول سامي محمد حسانين، أحد أصحاب الورش، لـ "نيوز رووم" إنه بدأ العمل في هذه المهنة منذ كان عمره خمس سنوات، وتعلّم أسرارها من والده حتى أصبح يمتلك ورشة خاصة يعمل بها مجموعة من شباب القرية. يؤكد أن البطالة لا مكان لها في إمياي، وأن أهل القرية اعتادوا العمل منذ الصغر، ما ساعدهم على بناء اقتصاد محلي مستقل يقوم على الجهد الشخصي والإبداع الحرفي.

صناعة الجريد لا تقتصر على الجمال اليدوي، بل تتمتع بمزايا وظيفية جعلت منتجات إمياي مطلوبة في أسواق الخضار والفواكه في مختلف المحافظات، إذ أن الجريد يحتفظ بالحرارة ويفقدها ببطء، ما يُساعد في الحفاظ على سلامة المحاصيل الزراعية أثناء النقل، على عكس الأقفاص البلاستيكية التي تُسهم في تسخين الثمار وتلفها سريعًا، بحسب ما أكده رمضان جودة، صاحب أحد المصانع الصغيرة بالقرية.

ورغم هذا النجاح المتواصل، إلا أن صُنّاع إمياي يواجهون تحديات خطيرة تهدد استمرار المهنة، أبرزها غياب التأمين الصحي والاجتماعي عن العاملين، وعدم وجود نقابة تحميهم أو تمثل مصالحهم أمام الجهات الحكومية. فالعامل الذي يُصاب خلال العمل يُعالج على نفقته الخاصة، والورشة التي تتعطّل تُغلق أبوابها دون بديل.

يقول توفيق الشاذلي، صاحب ورشة، لـ "نيوز رووم" إن أهالي القرية يبذلون أقصى جهدهم للحفاظ على المهنة، لكنهم لا يجدون أي دعم حقيقي من الدولة، مشيرًا إلى أن المهنة تواجه أزمة في توفر المواد الخام، نتيجة نقص أشجار النخيل، وغياب أي خطة لزراعتها أو تنظيم توزيع الجريد على الورش. ويضيف أن الورش بحاجة عاجلة لقروض ميسّرة لتحديث أدوات الإنتاج، وتدريب العاملين، وإنشاء كيان نقابي يمثّل الصناع ويدافع عن حقوقهم.

من جانبه، أوضح جمال عصر، عمدة قرية إمياي، في حديث مع "نيوز رووم" ، أن هذه الحرفة التراثية لا تخدم الاقتصاد المحلي فقط، بل تدعم أيضًا الإنتاج الزراعي في مصر من خلال توفير وسيلة آمنة بيئيًا لنقل وتخزين المحاصيل. وشدّد على أن صناعة الجريد لا تلوث البيئة، نظرًا لاعتمادها على مخلفات النخيل الطبيعية، وأنها تُوفّر آلاف فرص العمل وتمنع تفشي البطالة، داعيًا الحكومة إلى إدراجها ضمن الصناعات ذات الأولوية في برامج التنمية المستدامة، ودعمها ماليًا وفنيًا.

وفي استجابة أولية، قام المهندس أيمن عطية، محافظ القليوبية، بزيارة القرية مؤخرًا، واستمع إلى مطالب الصناع والعاملين، ووجّه بتقديم قافلة طبية متكاملة للقرية بالتنسيق مع مديرية الصحة وكلية طب بنها، كما وعد بدراسة المشاكل التي تواجه الورش، وبحث إمكانية تقديم تسهيلات مادية وفنية تُمكّن الصناع من مواصلة عملهم وتوسيع أنشطتهم.

وكانت الدكتورة إيمان ريان، نائب المحافظ، قد تفقدت بعض المشروعات الصغيرة والمتوسطة في إمياي، في إطار جهود المحافظة لدعم المشروعات المتناهية الصغر والقرى المنتجة، مشيرة إلى أن مثل هذه القرى تستحق الدعم الكامل لما تقدّمه من نموذج ناجح في خفض البطالة وتحقيق الاكتفاء الذاتي على المستوى المحلي.

وتُعد قرية إمياي واحدة من كبرى قرى مركز طوخ، ويقدّر عدد سكانها بما يزيد عن 35 ألف نسمة، ويعتمد معظمهم على الحرف اليدوية، وعلى رأسها صناعة الجريد، إلى جانب بعض الأنشطة الزراعية وتربية الماشية. ورغم توفر بعض الخدمات الأساسية مثل المدارس والوحدات الصحية، إلا أن القرية ما تزال بحاجة ماسة إلى تطوير بنيتها التحتية، وتحسين شبكات الطرق والمرافق، وإنشاء مجمعات صناعية صغيرة لدعم الورش المنتشرة في شوارعها.

ويؤكد عدد من الخبراء أن دعم القرى المنتجة مثل إمياي يُمثل فرصة حقيقية للنهوض بالاقتصاد المحلي، وتوفير فرص عمل للشباب بعيدًا عن المدن المزدحمة. ويقول الدكتور محمود منصور رثيس قسم الإعلام بكلية التربية النوعية بجامعة بنها ، إن الصناعات الحرفية قادرة على الإسهام في الناتج المحلي إذا تم تنظيمها وتوفير التدريب والتمويل المناسب لها، لافتًا إلى أن الجريد، والنسيج، والفخار، والسجاد اليدوي، كلها صناعات واعدة يمكن تصديرها إذا وجدت الرعاية.

وفي السياق نفسه، تقول الدكتورة جيهان فؤاد  إن إمياي وأمثالها من القرى المنتجة يجب دمجها ضمن مبادرات الدولة التنموية مثل "حياة كريمة"، من خلال إنشاء مراكز تدريب مهني، وتوفير منافذ بيع دائمة في المدن الكبرى، وضمان تغطية العاملين فيها بالتأمين الصحي والاجتماعي.

في إمياي، لا تُرفع الشعارات، بل تُحمل الأقفاص على الأكتاف، وتُطرق المسامير بجد، ويبدأ العمل قبل طلوع الشمس. قرية تُحارب البطالة بالحرفة، وتُقاتل من أجل البقاء في سوق لا يرحم. قرية تنتج في صمت، وتنتظر من يُنصفها قبل أن تخسر مصر إحدى قلاعها الحرفية الأصيلة.
 

تم نسخ الرابط