عاجل

ملامح إعادة هيكلة العلاقات النفطية بين تركيا والعراق

النفط
النفط

أعلن وزير النفط العراقي حيان عبد الغني، يوم 6 أغسطس الجاري (2025) استئناف تصدير النفط العراقي عبر خط أنابيب "كركوك – جيهان" الذي ينقل النفط الخام من حقول "كركوك" العراقية إلى ميناء "جيهان" التركي على البحر المتوسط. 

ووفقًا لمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وأتت هذه الخطوة عقب صدور المرسوم الرئاسي التركي يوم 21 يوليو 2025 الذي قضى بإلغاء اتفاقية خط الأنابيب، وكافة البروتوكولات والملاحق ذات الصلة، ما يعني أن تركيا لن تكون مُلزمة قانونيًا بنقل النفط العراقي عبر أراضيها اعتبارًا من يوليو عام 2026، وهو تاريخ انتهاء المدة المحددة للاتفاقية، حيث استندت تركيا في قرارها إلى المادة رقم (11) من الاتفاقية المُعدلة عام 2010، التي تُجيز لأي طرف إنهاء الاتفاق، إذا لم يتم تمديده أو تعديله قبل سنتين من النفاذ.

 

جدير بالذكر أن عمر هذه الاتفاقية تجاوز الـ 5 عقود، إذ دخلت حيذ التنفيذ رسميًا في 22 أبريل 1975، عقب مصادقة مجلس الوزراء التركي عليها عام 1973، وكان الهدف الأساسي من خط النقل - الذي يبلغ طوله حوالي 1000 كيلومتر- تنظيم وتأمين تدفقات صادرات النفط الخام العراقي إلى الأسواق الأوروبية عبر الأراضي التركية، بما يُسهم في تنامي العوائد والمكاسب الاقتصادية للبلدين، ويُعزز مكانة تركيا الجيوسياسية الإقليمية والعالمية، كممر استراتيجي للطاقة.

 

ووفقًا لبيان الحكومة التركية بشأن إلغاء الاتفاقية، أتى هذا القرار كخطوة لإعادة هيكلة وضبط شروط التعاون المشترك في ملف الطاقة بين البلدين، حيث تزامن قرار إلغاء الاتفاقية مع إرسال وزارة الطاقة التركية مسودة مقترح اتفاق جديد إلى وزارة النفط العراقية؛ مؤكدةً استعدادها لفتح الباب أمام إجراء سلسلة من النقاشات والمفاوضات بشأن تطوير مسار وحجم الطاقة الاستيعابية المُخصصة لصادرات النفط العراقية عبر خط أنابيب "كركوك – جيهان" بإنشاء وتطوير خط جديد، وكذلك تعزيز التعاون الأوسع بين البلدين في مجالات ومشاريع استراتيجية طويلة الأمد، تشمل التعاون في إنتاج وتصدير النفط والغاز الطبيعي، وتطوير الحقول الهيدروكربونية، والشراكة في استثمارات التكرير والبتروكيماويات، إضافة إلى مشاريع توليد ونقل الكهرباء.

 

مغزى توقيت القرار التركي

فعليًا، تم تعليق عمل الخط منذ 25 مارس عام 2023، وذلك على خلفية لجوء وزارة النفط الاتحادية العراقية إلى محكمة التحكيم الدولية ورفع دعوى تحكيم في غرفة التجارة الدولية في باريس ضد وزارة الطاقة التركية وشركة الطاقة الوطنية التركية "بوتاش" المُشغلة الرئيسية للخط؛ بسبب صادرات النفط غير المُصرح بها من إقليم كردستان بين عامي 2014 و2018 – إثر تضرر الخط الرئيسي مع سيطرة تنظيم "داعش" على أجزاء من محافظة نينوي، وتوجيه صادرات النفط نحو القنوات التي تسيطر عليها حكومة الإقليم - ما عُد خرقًا للاتفاقية بالنسبة للجانب العراقي.

 

جاء حكم المحكمة لصالح العراق عام 2023، وتم مطالبة تركيا بدفع تعويض قدره 1.5 مليار دولار، لكنها طعنت في الحكم، وتحت ذريعة المراجعة الفنية للخط، تم إيقاف تشغيله منذ ذلك الحين[1]. ومن المُتوقع أن يكون قرار إلغاء الاتفاقية والدفع نحو التفاوض حول اتفاقية جديدة؛ جزءًا من سياسة الضغط التي تتبناها تركيا على العراق لإسقاط مطالب التعويض التي كانت متعلقة بشرط التجديد التلقائي للاتفاقية لمدة خمس سنوات بعد تاريخ نهايتها في 2026، خاصة أن قرار وقف تشغيل الخط - على مدار ما يزيد على 28 شهرًا - قد ساهم في تفاقم التحديات الاقتصادية وجيوسياسية التي تواجه تركيا.

 

فوفقًا للجنة المؤسسات الاقتصادية الحكومية في البرلمان التركي، أسفر التعليق المستمر للخط عن تراكم الأعباء المالية على شركة "بوتاش" التركية، التي لا تزال تتحمل تكاليف شهرية تُقدر بـ 25 مليون دولار نظير إجراءات صيانة وتأمين الخط الذي لا يعمل منذ عام 2023[2]. فضلاً عن أن الخط قبل إغلاقه كان ينقل حوالي 500 ألف برميل فقط يوميًا، أي أقل بكثير من طاقته الاستيعابية، التي تُقدر بـ 1.5 مليون برميل يوميًا، ما ترتب عليه تراجع كبير في حجم مكاسب تركيا من رسوم النقل والترانزيت[3].

 

وقد جاء قرار إلغاء الاتفاقية من جانب تركيا مُتزامنًا مع محاولات العراق المستمرة لاستئناف تدفقات النفط عبر الخط، سواء عن طريق الجهود الدبلوماسية والمباحثات الثنائية مع تركيا، التي دامت لأشهر – دون إحراز أي تقدم - بسبب قضايا خلافية تتعلق بالمدفوعات والشروط المُدرجة في الاتفاقية المُلغاه حاليًا، أو عن طريق التوصل إلى تسوية مع إقليم كردستان لاستئناف تصدير نفط الإقليم عبر شركة "سومو" الحكومية باعتبارها الجهة الوحيدة المُصرح لها بإدارة صادرات النفط عبر الميناء التركي.

 

يمكن القول إن هذه التطورات والتحركات من الجانب العراقي؛ دفعت تركيا نحو إلغاء الاتفاقية كوسيلة ضغط لتعزيز موقفها التفاوضي في أثناء إعادة صياغة علاقتها النفطية مع الجانب العراقي، بما يدعم فرص قبول شروطها للتوصل إلى اتفاقية جديدة تتضمن آليات وبنود تُضاعف من مكاسبها الاقتصادية وتمنحها مرونة أكبر في الإدارة، وكذلك تضمن لها تلافي أي إشكاليات قانونية في المستقبل، وتُمكنها من تعويض الخسائر المالية التي تكبدتها إبان فترة توقف عمل الخط. ذلك انطلاقًا من مدى إدراك الجانب التركي لأهمية استئناف عمل الخط بالنسبة للعراق، لاسيما أن حجم خسائرها المالية قُدر بـ 19 مليار دولار حتى فبراير 2025 منذ إغلاق الخط.

 

من المُتوقع أن يُسهم الخط الجديد، المُقرر أن يمتد من البصرة إلى حديثة شمالاً، ومنها إلى سيلوبي وميناء جيهان في جنوب تركيا، مرورًا بكل من بيجي وفيشخابور قرب الحدود العراقية – التركية؛ في رفع الطاقة التصديرية لخط كركوك – جيهان إلى 2.2 مليون برميل يوميًا، ما يعني إمكانية تعظيم مكاسب تركيا من خلال المطالبة برفع الكُلفة الكلية على العراق، وعلى رأسها رسوم عبور النفط[4].

 

ويُعزى - أيضًا – الضغط التركي على العراق للوصول إلى اتفاق بشأن الخط الجديد في هذا التوقيت؛ إلى كونه امتدادًا لمبادرة مشروع "طريق التنمية" التجاري بين تركيا والعراق، الذي من المُقرر أن تبدأ أولى مراحله في العمل أواخر العام الجاري (2025)، حيث يتضمن المشروع تشييد مجموعة من الموانئ، والطرق، والسكك الحديدية، من ميناء "الفاو" في مدينة البصرة إلى الموصل، مرورًا بكربلاء وبغداد، ثم إلى الأراضي التركية وصولاً إلى ميناء "مرسين" على البحر المتوسط. إذ تكمن أهمية مشروع خط النفط ضمن مبادرة "طريق التنمية" بالنسبة لتركيا في أنها ستصبح حلقة وصل مركزية لنقل البضائع وصادرات النفط والغاز الطبيعي من الخليج والشرق الأوسط إلى الأسواق الأوروبية. فضلاً عن نصيب تركيا من العائدات الاقتصادية لهذا المشروع، التي تتمثل في رسوم النقل والترانزيت، وتدفق الاستثمارات داخل أراضيها.

 

الفرص والتحديات

على الرغم من إعلان العراق من جانبها استئناف عمل خط أنابيب "كركوك – جيهان"، إلا أن قرار تركيا بشأن إلغاء الاتفاقية ومساعي الوصول إلى اتفاق جديد بين الجانبين؛ يطرح العديد من التساؤلات حول فرص وتحديات المرحلة القادمة، وذلك على النحو التالي:

 

أولًا: الفرص: تتمثل ورقة الضغط التي تُعول عليها تركيا الآن في دفع العراق للتفاوض حول الاتفاق الجديد، في أنه على الرغم من التوقف الفعلي لخط "كركوك – جيهان" منذ عام 2023، إلا أن إلغاء الاتفاقية من جانب تركيا، وإمكانية فشل التوصل إلى اتفاق آخر قد يؤدي إلى تعثر مساعي إعادة إحياء الخط وتطويره، وبالتالي فقدان العراق المنفذ الأساسي لصادرات نفط الشمال إلى الأسواق الأوروبية، والتأثير ليس فقط على استقرار سوق النفط العراقي، بل على كافة الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في البلاد، لاسيما أن الإيرادات النفطية تغطي نسبة تفوق الـ 90% من تمويل الموازنة العامة للدولة[5].

 

فمع اعتماد العراق المُتزايد على موانئ التصدير الجنوبية منذ عام 2023؛ تراجع هامش أرباح صادرات النفط بسبب طول المسافة، وزيادة كُلفة طرق النقل والشحن، ناهيك عن صعوبة استمرار اعتماد العراق على مضيق "هُرمز" في ظل التوترات السياسية والأمنية التي تشهدها المنطقة، وتكرار تهديدات إيران بشأن إمكانية غلق المضيق ردًا على الاعتداءات الإسرائيلية والأمريكية على منشآتها النووية، مع إمكانية تجدد الحرب بين الجانبين لعدم زوال مُسبباتها، ما قد يُعرض الاقتصاد العراقي لتحديات اقتصادية وجيوسياسية واسعة النطاق.

 

ضف إلى ذلك، صعوبة إيجاد بدائل استراتيجية بالنسبة للعراق، والتي منها على سبيل المثال إعادة إحياء خط العراق – سوريا (بانياس) كبديل عن خط جيهان، خاصة في الوقت الراهن، سواء بسبب تكاليف الصيانة وإعادة التأهيل التي من المُتوقع أن تستغرق سنوات طويلة، بكُلفة مالية تُقدّر بمليارات الدولارات، أو بسبب توتر العلاقات بين الجانبين العراقي والسوري في ظل الإدارة السورية الجديدة، وعدم استقرار الأوضاع الأمنية في البلاد.

 

بالتالي، يمكن القول إن التطورات السياسية والأمنية التي تشهدها المنطقة، ستدفع العراق في نهاية المطاف إلى قبول الدخول مع تركيا في مفاوضات بشأن وضع اتفاقية تجارية واستثمارية جديدة من منطلق "رابح – رابح"، تضمن لها استمرار تدفق بضائعها وصادراتها النفطية إلى الأسواق العالمية، رغم الأوضاع المضطربة والغير مستقرة على نطاق واسع في الإقليم، وهو ما أكد عليه رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، في تصريحاته يوم 7 أغسطس الجاري، التي أشار خلالها إلى أن مشروع "طريق التنمية" بقيادة العراق وتركيا يعتبر من أهم المشاريع في الشرق الأوسط، مؤكدًا أن بلاده ترغب أن تكون العلاقات التركية - العراقية جزءًا من معادلة الاستقرار الإقليمي، خاصة في ظل مساعي إسرائيل لجر المنطقة برمتها إلى الحرب[6].

 

ثانيًا: التحديات: يأتي في مقدمتها مدى تمسك تركيا ببنود وشروط مالية وإدارية، تضمن تعظيم مكاسبها الاقتصادية والجيوسياسية في إطار الاتفاقية الجديدة، واشتراط تفعيل السعة الكاملة للخط (1.5 مليون برميل يوميًا)، ما يعني إلغاء جزء من تصدير نفط العراق من "البصرة" جنوب البلاد بمد أنبوب جديد إلى ميناء جيهان، بناءً على أن صادرات النفط الشمالية غير كافية لبلوغ السعة المطلوبة. فحسب الموقف العراقي، من المُفترض استئناف عمل الخط على أن يتم تصدير 90 ألف برميل يوميًا من محطة النفط الرطب شمال كركوك، إضافة إلى 80 ألف برميل يوميًا من الإقليم كمرحلة أولى[7]، وهو ما يعني عدم الوصول إلى الطاقة الاستيعابية الكاملة للخط، كما تشترط تركيا.

 

إذ يتمثل التحدي الآخر في الأوضاع الأمنية المضطربة التي تواجه إقليم كردستان. فرغم توصل العراق إلى تسوية مع إقليم كردستان بموجبها تم الاتفاق على أن يزوّد الإقليم شركة "سومو" الحكومية بـ حوالي 230 ألف برميل يوميًا، مقابل أن تلتزم وزارة المالية العراقية بتسديد 16 دولار عن كل برميل نفط مُستلم من كردستان[8]، إلا أن هجمات الطائرات المُسيّرة التي استهدفت منشآت وخطوط البنية التحتية النفطية في يوم 14 يوليو 2025 واستمرت على مدار أربعة أيام، أدت إلى خفض الطاقة الإنتاجية في عدة حقول نفطية رئيسية بأكثر من النصف، وتعطل إنتاج حوالي 150 ألف برميل يوميًا من النفط، فضلاً عن خسارة يومية تُقدر بحوالي 10 ملايين دولار[9].

 

إذ أتت تلك الضربات في ظل التدهور الفعلي لقطاع النفط في الإقليم، وتراجع قدرته على استخراج إمكاناته الكاملة منذ وقف خط جيهان، الذي كان بمثابة المنفذ الحيوي الوحيد لصادراته النفطية، خاصة أن الإقليم يعتمد على صادرات النفط في تمويل نحو 80% من موازنته السنوية. بالتالي يواجه إقليم كردستان أزمة في تطبيق بنود الاتفاق الخاص به مع العراق، خاصة تلك المرتبطة بكمية البراميل المُتفق تسليمها لشركة "سومو" يوميًا [10].

 

ختامًا، يمكن القول إن مستقبل العلاقات النفطية بين تركيا والعراق سيتوقف بدرجة كبيرة على حجم المرونة التي سيبديها الجانبان، سواء بالنسبة لملفات التفاوض حول المسائل المالية والإدارية والقانونية المرتبطة بالاتفاقات والمشاريع الاستثمارية القادمة، أو بالنسبة لموقفهما من التحديات التي يواجهها إقليم كردستان باعتباره طرفًا أساسيًا وحيويًا في المباحثات، وذلك بما يضمن لكافة الأطراف تحقيق مصالحها وتعظيم مكاسبها على المدى الطويل، لاسيما في ظل محدودية البدائل الاستراتيجية، وسط مشهد إقليمي وعالمي مضطرب وملئ بالتحديات والأزمات السياسية والأمنية والاقتصادية.

تم نسخ الرابط