مع اشتغال المرأة بتدريس القرآن.. هل يجوز حملها المصحف أثناء الحيض؟

أوضحت دار الإفتاء على اتفاق جمهور العلماء على وجوب كون لامس وحامل المصحف طاهرًا، فمَن شقَّ عليه ذلك واحتاج إلى حمله ولمسه بغير طهارة فليقلّد بقية العلماء المجيزين لذلك، فمَنْ ابتُلِي بشيء ممَّا يُضَيّق عليه معاملاته أو عباداته فله الأخذ بالرأي الأسهل أو ما فيه سعة عليه ولو كان مخالفًا لرأي أغلب العلماء.
وأمَّا حمل الحائض للحقيبة التي فيها المصحف فلا مانع فيه؛ لأنَّ المقصود هو حمل الحقيبة، وأمَّا حمل المصحف فهو تابع لحمل الحقيبة لا لذاته، ولكن تحرص على عدم لمسه؛ لأنَّ الحائض أشدّ حالًا من الجنب، والجنب يحرم عليه لمس المصحف، وكذا حمله لذاته.
حكم إحرام المرأة حال حيضها
اتفق الفقهاء على أن الحيض والنفاس ليسا من موانع الإحرام، ولا يترتب عليهما فساد الحج أو العمرة إن حصلا خلالهما، ولا يمنعان شيئًا من أعمال الحج والعمرة إلا الطواف على ما يأتي فيه من الخلاف؛ لحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قدمتُ مكة وأنا حائضٌ لم أَطُفْ بالبيت ولا بين الصفا والمروة، فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: «افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ، غَيْرَ أَلَّا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطَّهَّرِي» متفق عليه، وروى الإمام أحمد في "المسند" واللفظ له، وأبو داود في "السنن"، والترمذي في "جامعه" وحسَّنه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «النُّفَسَاءُ وَالْحَائِضُ إِذَا أَتَتَا عَلَى الْوَقْتِ تَغْتَسِلانِ وَتُحْرِمَانِ، وَتَقْضِيَانِ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا، غَيْرَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ». كما أنهم اتفقوا على أن المرأة إذا حاضت قبل طواف الركن في الحج أو العمرة وأمكنها الانتظار فعليها أن تنتظر لتطوف على طهارة.
قال الشيخ ابن تيمية الحنبلي -كما في "مجموع الفتاوى" (26/ 205-206، ط. مجمع الملك فهد)-: [الذي لا أعلم فيه نزاعًا: أنه ليس لها أن تطوف مع الحيض إذا كانت قادرة على الطواف مع الطُّهر؛ فما أعلم منازعًا أن ذلك يحرم عليها وتأثم به] اهـ.
حكم انتظار الرفقة للحائض حتى تطهر
انتظار الرفقة للحائض حتى تطهر فتطوف أمرٌ مشروع ومستحبٌّ جاءت به السنة النبوية الشريفة؛ فروى البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: حاضتْ صفِيَّةُ بِنت حُيَيٍّ بعدما أفاضت فذكرْتُ حَيْضَتَها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: «أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟» فقُلْتُ: يا رسول الله، إنها قد كانت أفاضت وطافت بالبيت، ثم حاضت بعد الإفاضة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «فَلْتَنْفِرْ».
وروى عبد الرزاق وابن أبي شيبة في "مصنفيهما" عن إبراهيم النخعي وأبي هريرة رضي الله عنه موقوفًا قالا: "أَمِيرَانِ وَلَيْسَا بِأَمِيرَيْنِ: الرَّجُلُ يَكُونُ مَعَ الْجِنَازَةِ فَصَلَّى عَلَيْهَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ حَتَّى يَسْتَأْذِنَ وَلِيَّهَا، وَالْمَرْأَةُ الْحَائِضُ لَيْسَ لِأَصْحَابِهَا أَنْ يَصْدُرُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوا"، وفي لفظ لأبي هريرة رضي الله عنه عند ابن أبي شيبة: "وَالْمَرْأَةُ تَكُونُ مَعَ الْقَوْمِ فَتَحِيضُ قَبْلَ أَنْ تَطُوفَ بِالْبَيْتِ يَوْمَ النَّحْرِ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَنْفِرُوا إِلَّا بِإِذْنِهَا"، ورواه ابن أبي شيبة عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما موقوفًا، ويُروَى مرفوعًا من حديث أبي هريرة وجابر رضي الله عنهما بأسانيد فيها مقال.
غير أن انتظار الرفقة للحائض منوط بالإمكان والاستطاعة، فإذا تعذَّر ذلك أو تعسَّر فشأنه شأن الأوامر الشرعية التي تسقط عند العجز عنها؛ قال الشيخ ابن تيمية -كما في "مجموع الفتاوى" (26/ 224)-: [ولما كانت الطرقات آمنة في زمن السلف، والناس يَرِدُون مكةَ ويَصْدُرون عنها في أيام العام كانت المرأة يمكنها أن تحتبس هي وذو محرمها ومَكَارِيُّها حتى تطهر ثم تطوف؛ فكان العلماء يأمرون بذلك. وربما أمروا الأمير أن يحتبس لأجل الحُيَّضِ حتى يطهرن؛ كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟» ...، وأما هذه الأوقات فكثير من النساء أو أكثرهن لا يُمكنهنَّ الاحتباسُ بعد الوفد، والوفد ينفر بعد التشريق بيوم أو يومين أو ثلاثة، وتكون هي قد حاضت ليلة النحر؛ فلا تطهر إلى سبعة أيام أو أكثر، وهي لا يمكنها أن تقيم بمكة حتى تطهر؛ إما لعدم النفقة، أو لعدم الرفقة التي تقيم معها وترجع معها...، أو لخوف الضرر على نفسها ومالِها في المُقام وفي الرجوع بعد الوفد، والرفقة التي معها: تارة لا يمكنهم الاحتباس لأجلها؛ إما لعدم القدرة على المُقام والرجوع وحدهم، وإما لخوف الضرر على أنفسهم وأموالهم، وتارة يمكنهم ذلك، لكن لا يفعلونه؛ فتبقى هي معذورة] اهـ.
حكم اشتراط الطهارة من الحيض والنفاس للطواف
الطهارة من الحيض والنفاس شرط لصحة الطواف دون السعي عند جمهور الفقهاء؛ مستدلين بحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها السابق ذكرُه؛ فإن فيه نهيًا للحائض عن الطواف حتى ينقطع دمها وتغتسل، والنهيُ في العبادات يقتضي الفساد، ولذلك يبطل الطواف لو فعلَتْه.
وخالف في اشتراط الطهارة للطواف جماعةٌ مِن الفقهاء؛ فحملوا النهي في الحديث على الحالة المعتادة التي تستطيع فيها الحائض الانتظار حتى تطهر وتطوف، لا على حال الضرورة، وجعلوا الطهارة في الطواف واجبًا لا شرطًا، وهو مذهب الحنفية، وقول عند الحنابلة، ومنهم مَن جعلها سُنَّة، وهو مذهب جماعة مِن التابعين، وقول عند الحنفية والمالكية والحنابلة.
فتُحْرِم الحائض أو النفساء بالحج أو بالعمرة من ميقات إحرامها وتنتظر على مذهب الجماهير حتى تطهر؛ سواء أتاها الحيض قبل الإحرام أم أثناءه أم بعده وقبل الطواف، فإذا طهرت اغتسلت ثم طافت وسعت من غير أن تحرم مرة أخرى من الحِلِّ.
فإن تخلل حيضها فترة انقطع فيها الدم، أو استعملت دواءً فانقطع دمُها جاز لها الاغتسال والطواف، وطوافها صحيح حتى لو رجع إليها الدم بعد ذلك وكانت في مدة الحيض؛ على ما عليه المالكية والحنابلة مِن أن النقاءَ في الحيض طُهْر، وهو أحد قولي الإمام الشافعي، ويُعرَف بقول "التلفيق"، ورجحه جماعة من الشافعية، وهو مذهب الإمام الحسن بن أبي الحسن البصري.
فإن تأخر طهرُها ولم ينقطع دمُ حيضها وخافت فوات الرُّفقة، وتعذر عليها الانتظارُ حتى تطهر فالذي يقتضيه مذهب مَن يرى الطهارة شرطًا في الطواف أنها تتحلل من إحرامها كالمُحصَر، وتذبح إن لم تكن قد اشترطت إحلالها إذا حُبِسَتْ، ويبقى الطواف في ذمتها ولو بعد سنين، وبعضهم يوجب عليها المكث بمكة حتى تطهر فتطوف، ولا يخفى ما في ذلك كلِّه مِن العسر والمشقة، سيَّما إذا نأتِ الديار وبَعُدَت الشُّقَّةُ، أو ضاق الحالُ وعزَّت النفقة، وقد أصبح الحج كالفرصة التي يندر تكرارها لعامَّة الناس.