التداعيات الداخلية والخارجية للموجة الجديدة لاحتجاجات كينيا

بعد مرور عام على التظاهرات التي قادها الشباب الكيني، من الجيل Z -المولودين بين عامي 1997 و2012-، احتجاجًا على مشروع قانون المالية لعام 2024، اجتاحت كينيا خلال شهري يونيو ويوليو موجة جديدة من الاحتجاجات، واكتسبت الاحتجاجات رمزية خاصة فيما يتصل بالذاكرة الوطنية والتطلعات الديمقراطية؛ حيث تزامنت من جهة مع الذكرى السنوية لاحتجاجات 25 يونيو 2024، ومع يوم سابا سابا في السابع من يوليو، من جهة أخرى، وهو إحياء تاريخي لذكرى احتجاجات عام 1990 المؤيدة للديمقراطية التي ساعدت في إدخال الديمقراطية المتعددة الأحزاب في كينيا.
فقد خرجت تظاهرات حاشدة في مقاطعات وشوارع كينيا على مدار أربعة أيام في 12 و17 و25 يونيو، و7 يوليو، ولم تختلف كثيرًا أسباب الموجات الجديدة من الاحتجاجات الكينية عن تلك الأسباب التي دفعت الشباب للخروج في احتجاجات يونيو 2024 الرافضة لقانون المالية آنذاك. ربما كانت نقطة الانطلاق لكل تظاهر تختلف عن الأخرى، ولكن الأسباب الحقيقية الكامنة تكاد تكون واحدة.
كما تأتي الاحتجاجات في ظل تزايد الاستياء الشعبي من حكومة الرئيس الكيني “ويليام روتو” نتيجة مظالم طويلة الأمد، لم يتم معالجتها، تتعلق بالصعوبات الاقتصادية، وارتفاع نسبة البطالة بين الشباب، وزيادة الضرائب، وسوء الإدارة، ومزاعم الفساد التي تواجه حكومة روتو، وقد تضافرت هذه القضايا لتُحفّز موجةً جديدة من التظاهرات بقيادة الشباب، والتي حُشّدت جزئيًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي، للمطالبة بتغيير سياسي واجتماعي شامل، ووصلت إلى حد المطالبة باستقالة الرئيس ويليام روتو. وتنذر الاحتجاجات المستمرة التي تشهدها كينيا بتفاقم حالة عدم الاستقرار في دولة ذات أهمية في شرق أفريقيا ما لم تُعالج بشكل شامل.
انطلاقًا من ذلك، تحاول هذه الورقة التي أعدها المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، استكشاف التداعيات التي خلفتها تلك الاحتجاجات سواء على الصعيد الاقتصادي أو السياسي في الداخل الكيني أو على دول الجوار:
أولًا: الخسائر المباشرة
خسائر بشرية
في تقرير صدر عن هيئة مراقبة الشرطة الكينية (إيبوا –IPOA)، أعلنت أن 65 شخصًا لقوا حتفهم خلال الاحتجاجات التي جرت في 12 و17 و25 يونيو، و7 يوليو. وربطت هيئة (إيبوا) معظم الوفيات بتصرفات الشرطة، بما في ذلك “استخدام القوة غير المتناسبة، وانعدام الاحترافية، والفشل في الحفاظ على السلامة العامة والحقوق”. وأفاد التقرير أن التظاهر الأول في العاصمة نيروبي، في ١٢ يونيو، كان “سلميًا إلى حد كبير”. أما تظاهرات 25 يونيو فقد شهدت وفاة 23 شخصًا في مناطق مختلفة من البلاد. وشهد اليوم الرابع، 7 يوليو، أكبر خسارة في الأرواح حيث توفي 41 شخصًا. وتوزعت الوفيات على 20 مقاطعة على الأقل، وكانت مقاطعة نيروبي مسئولة عن أعلى عدد من الوفيات (15)، تليها كيامبو (14) وعلى مدار الأيام الأربعة، وثقت المنظمة أيضا 342 إصابة بين المدنيين و171 إصابة بين أفراد الشرطة، إلى جانب مئات الأشخاص الذين يواجهون تهمًا جنائية في المحاكم على مستوى البلاد، تشمل مزاعم القتل والسرقة والإتلاف المتعمد للممتلكات والتجمع غير القانوني وجرائم الإرهاب.
خسائر في الممتلكات والبنية التحتية
تعطلت الأنشطة التجارية في جميع أنحاء كينيا بشدة في يونيو ويوليو بسبب الاحتجاجات، وتم إغلاق عديد من المتاجر والشركات؛ حيث خشي أصحاب الأعمال النهب بعد أن تسللت عناصر إجرامية إلى المظاهرات السابقة. وبينما يصعب غالبًا تحديد الأرقام المحددة للخسائر الاقتصادية المرتبطة بالاحتجاجات بشكل شامل، فقد قدرت بعض التقارير أن الاحتجاجات المناهضة للحكومة تسببت في خسائر اقتصادية يومية تقدر بنحو 3 مليارات شلن كيني (حوالي 23 مليون دولار أمريكي)، فيما أشارت وسائل إعلام محلية إلى أن يوم الاثنين 7 يوليو وحده شهد وقوع خسائر تُقدر بنحو 10,4 مليار شلن (80.3 مليون دولار) نتيجة إغلاق العاصمة نيروبي، ويعزى ذلك أساسًا إلى إغلاق الشركات وانخفاض الإنتاجية وإلحاق الضرر بالممتلكات.
وعلى مدار عدة أيام من الاحتجاجات، تراكمت هذه الخسائر بسرعة لتبلغ عشرات المليارات من الشلنات، وكانت الشركات الصغيرة والمتوسطة هي الأكثر تضررًا خلال الاحتجاجات؛ إذ تفتقر هذه الشركات إلى المدخرات المالية أو التغطية التأمينية التي تتمتع بها الشركات الكبرى. وقد تُجبرها الخسائر المتكررة على الإغلاق نهائيًا؛ مما يؤدي إلى فقدان الوظائف وتباطؤ اقتصادي أوسع نطاقًا. كما تكبد تجار التجزئة الكينيون خسائر قدرها 2 مليار شلن كيني من الاحتجاجات الأخيرة، وكانت معظم الخسائر ناتجة عن خسائر المخزون وتدمير البنية التحتية، فخلال الاشتباكات، قامت مجموعة من الخارجين عن القانون بغزو ونهب ثلاثة متاجر كبيرة وسرقوا بضائع تقدر قيمتها بملايين الشلنات. كذلك استهدفت منشآت حكومية خلال المظاهرات؛ حيث تم حرق أو تدمير 16 مركزًا للشرطة وسرقة أسلحة نارية، كما تعرضت عدة شركات للنهب والحرق.
خسائر القطاع المصرفي والائتماني
تعرض القطاع المصرفي لخسائر ناتجة عن الاحتجاجات سواء بشكل مباشر أو غير مباشر؛ حيث تعرضت أجهزة الصراف الآلي للتخريب، وذكرت جمعية المصرفيين الكينيين أن ما لا يقل عن 30 فرعًا مصرفيًا وأجهزة صراف آلي تعرضت للتخريب، فضلًا عن الخسائر الناتجة عن توقع البنوك زيادة في القروض المتعثرة في الأشهر المقبلة بعد تدمير الشركات والممتلكات في 25 مقاطعة؛ مما يؤثر في قدرة الشركات على سداد الديون.
كذلك تواجه شركات التأمين ارتفاعًا في مطالبات التأمين مع قيام الشركات وأصحاب العقارات بتقييم الخسائر والأضرار الناجمة عن أعمال التخريب والنهب التي رافقت الاحتجاجات لإحياء الذكرى السنوية الأولى للمظاهرات المناهضة للحكومة في عام 2024. ومن المتوقع أن يُشكّل الإقبال المتزايد على بوالص التأمين ضغطًا على شركات التأمين بعد تفاقم المخاطر مع الاحتجاجات الأخيرة. ويذكر أن شركات التأمين العامة في كينيا دفعت مطالبات بقيمة 2.52 مليار شلن كيني العام الماضي على بوالص تأمين الحرائق الصناعية -حيث تقع بعض مخاطر الاحتجاجات- وهو ما يزيد على ضعف المبلغ المتكبد في عام 2023 والبالغ 1.27 مليار شلن كيني، وترجع الزيادة نسبيًا إلى الاحتجاجات التي شهدتها كينيا العام الماضي، وتتوقع أن يرتفع المبلغ هذا العام مع تزايد الخسائر في الممتلكات والمنشآت والشركات نتيجة احتجاجات يونيو ويوليو 2025.
تباطؤ النشاط الاقتصادي
أظهر مسح حديث للأعمال تباطؤ نشاط القطاع الخاص في كينيا في يونيو مع أكبر انكماش له في نحو عام، مدفوعًا بتباطؤ الإنفاق الاستهلاكي وتأثير الاحتجاجات خلال الشهر، وانخفض مؤشر مديري المشتريات لبنك ستانبيك كينيا إلى 48.6 نقطة من 49.6 نقطة في مايو. ويعد هذا الانكماش هو الأشد حدة في 11 شهرًا. وتم إرجاع هذا إلى الانكماش الحاد في نشاط الأعمال نتيجة الظروف الاقتصادية الصعبة، والاضطرابات التشغيلية الناجمة عن الاحتجاجات.
ثانيًا: تداعيات أعمق: التأثير على السياحة والاستثمار
يتجاوز الأثر المتوقع لاستمرار عدم الاستقرار السياسي والاحتجاجات في كينيا الخسائر المباشرة التي تكبدتها الأرواح والممتلكات؛ إذ له آثار طويلة المدى على مسار التنمية في البلاد، لما يتركه من أثر على السياحة والاستثمار التي يعتمد عليهم الاقتصاد الكيني بدرجة كبيرة، من حيث:
التأثير على السياحة: يُعد قطاع السياحة في كينيا مصدرًا رئيسيًا للعملات الأجنبية، ويسهم بنحو 7% من الناتج المحلي الاجمالي لكينيا، ويُعد مصدرًا مهمًا للوظائف، وفي ظل الاحتجاجات قد تؤدي تحذيرات السفر الصادرة عن الحكومات الأجنبية إلى إلغاءات كبيرة للحجوزات؛ مما يؤثر سلبًا على الفنادق ومنظمي الرحلات السياحية وشركات الطيران والمجتمعات المحلية المعتمدة على السياحة. ما من شأنه أن يؤثر على هدف قطاع السياحة في كينيا لعام 2025 المتمثل في استقبال 3 ملايين سائح، وتحقيق 560 مليار شلن كيني من الأرباح. ويذكر أن قطاع السياحة شهد انخفاضًا بنسبة 14% في أعداد الوافدين الدوليين خلال فترات ذروة السفر في عام 2024 بسبب المخاوف من عدم الاستقرار.
التأثير على الاستثمار: غالبًا ما تواجه الدول التي يُنظر إليها على أنها غير مستقرة سياسيًا صعوبة في جذب رأس مال أجنبي كبير والاحتفاظ به، ويؤثر هذا بشكل مباشر في خلق فرص العمل، ونقل التكنولوجيا، والتنويع الاقتصادي. وقد شهدت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر انخفاضًا في شهر يونيو 2025، بمقدار 35 مليون شلن (3 ملايين دولار أمريكي) عن شهر مايو 2025، محطمةً بذلك اتجاهًا ثابتًا سابقًا للتدفقات الصافية.
ثالثًا: تداعيات سياسية: تآكل شعبية روتو
أدى تعامل حكومة روتو مع الاحتجاجات -بما في ذلك استخدام الذخيرة الحية والاعتقالات التعسفية وانقطاع الإنترنت- إلى تآكل ثقة الكينيين في مؤسسات الدولة، كما أدت تصريحات الرئيس الكيني “ويليام روتو” بإطلاق النار على المتظاهرين في أرجلهم وتقديمهم للمحاكمة إلى زيادة الاحتقان الشعبي، فضلًا عن تزايد حالة الخزلان التي يشعر بها الشباب الكيني من روتو، فعندما كان يخوض حملته الرئاسية عام ٢٠٢٢، شكّل هؤلاء الشباب أساس حملة روتو الرئاسية، بناءً على وعود بتحسين الأوضاع الاقتصادية وخفض تكلفة المعيشة، وأنه على عكس الإدارات السابقة، سيستمع إليهم ويولي احتياجاتهم الأولوية، وهي الوعود التي حنث بها روتو فيما بعد. وأدت سياساته المتناقضة إلى تآكل شعبيته خاصة بين الشباب، الذين يشعرون بخيبة الأمل والخيانة بشكل خاص بسبب العنف الذي تمارسه إدارته عليهم؛ مما دفعهم إلى مطالبته بالتنحي خلال الاحتجاجات. وإذا استمرت حالة الغضب الشعبي، دون حل جذري، فإن فرص “روتو” في إعادة انتخابه عام 2027 ستتأثر بشكل كبير.
رابعًا: تأثيرات ممتدة: التأثير على دول الجوار
إن الضرر الناجم عن هذه الاحتجاجات لا يقتصر على كينيا فحسب بل يمتد إلى ما هو أبعد؛ حيث تلعب كينيا دورًا بالغ الأهمية في منطقة شرق ووسط أفريقيا، سواء على المستوى الاقتصادي أو في دعم الاستقرار السياسي والأمني في المنطقة، ومن الممكن أن تؤثر حالة عدم الاستقرار في كينيا على هذه الدول على النحو التالي:
على المستوى الاقتصادي
يمكن أن يؤدي عدم الاستقرار في كينيا إلى تأثيرات اقتصادية في دول شرق أفريقيا عبر عديد من القنوات، أبرزها:
التبادل التجاري
بلغ حجم تجارة كينيا مع دول شرق أفريقيا (EAC) في الربع الأول من عام 2025، حوالي 101.2 مليار شلن كيني، بما يوازي حوالي 28.3% من إجمالي صادراتها (276.7 مليار شلن)، وفقًا للمكتب الوطني للإحصاء الكيني، بما في ذلك 78.4 مليار شلن كيني صادرات كينيا لدول EAC، و22.8 مليار شلن كيني واردات من دول EAC. وهو ما يعكس أهمية كينيا كمصدر للسوق الإقليمي لشرق أفريقيا. ومن ثم فإن حدوث اضطرابات تؤثر على استقرار كينيا سيكون له تأثير سلبي ليس فقط على الاقتصاد الكيني، ولكن أيضًا على اقتصادات دول شرق أفريقيا التي تعتمد على كينيا في جزء كبير من وارداتها.
التجارة الخارجية عبر ميناء مومباسا
تعتمد عديد من دول المنطقة، مثل أوغندا ورواندا وبوروندي وجنوب السودان، سواء بشكل كامل أو جزئي، على ميناء مومباسا الكيني؛ حيث وصلت أحجام البضائع العابرة إلى نحو 13.4 مليون طن في عام 2024، وفقًا لما أعلنه الميناء يوم 9 يناير 2025. وكانت أوغندا الوجهة الرئيسية للعبور؛ حيث استحوذت على 65.7% من البضاع العابرة، تليها جنوب السودان (12.7%)، وجمهورية الكونغو الديمقراطية (11.8%)، ورواندا (5.1%)، وتنزانيا (3.4%)، وهو ما يسلط الضوء على الدور الحيوي للميناء في التجارة الإقليمية. وتؤثر الاضطرابات على شبكات النقل وخاصةً الطرق المؤدية من وإلى المراكز التجارية الرئيسية وميناء مومباسا؛ مما يؤثر على سلاسل التوريد لدول الجوار التي تعتمد على كينيا في تجارتها، وتؤدي اختناقات سلسلة التوريد إلى ارتفاع التكاليف على الشركات والمستهلكين؛ مما قد يؤدي إلى ارتفاع أسعار الوقود في الدول غير الساحلية بشكل حاد؛ مما يؤدي بدوره إلى ارتفاع أسعار السلع الأساسية الأخرى.
وفي ظل الاحتجاجات الأخيرة، انخفضت الحركة إلى كينيا عبر المدن الحدودية خوفًا من وقوع خسائر كبيرة في البضائع والسلع في أثناء نقلها، خاصة بالنسبة للسلع سريعة التلف، وقد تتأثر جداول التصدير والاستيراد بشكل سلبي فضلًا عن تراجع ثقة المستثمرين في المنطقة، ومن ثم فإن أي اضطراب في كينيا فقد يعطل التجارة في شرق أفريقيا؛ ما يؤثر بالتبعية على دور كينيا كمركز تجاري إقليمي. وفي حالة تجدد واستمرار الاحتجاجات ستتكبد دول المنطقة خسائر يختلف حجمها باختلاف درجة اعتماد الدولة على كينيا.
ختامًا، تُمثّل هذه الاضطرابات الموجة الثانية الكبرى من الاحتجاجات الوطنية ضد الرئيس الكيني ويليام روتو منذ توليه منصبه عام ٢٠٢٢، وتُعبّر عن مزيج من السخط لدى قطاع مهم من الجماهير الكينية من سياسات روتو التي تُعمّق انعدام ثقة الجمهور في حكومتة. وعلى العكس من احتجاجات يونيو 2024 التي حققت نجاحًا جزئيًا تمثل في تراجع روتو عن قانون المالية، والذي كان إلغاءَه هو المطلب الرئيسي للاحتجاجات آنذاك، لم تحقق احتجاجات يونيو ويوليو 2025 نجاحًا يُذكر، يرجع ذلك بشكل أساسي إلى عدم وجود مطالب محددة للمتظاهرين، خاصة الاقتصادية منها التي تحظى بتأييد شعبي، مع عدم وجود قيادة موحدة للتظاهرات. ومع ذلك، تهدد الاحتجاجات المتكررة بزعزعة الاستقرار الاقتصادي والسياسي لواحدة من الدول القليلة المستقرة نسبيًا في منطقة شرق أفريقيا التي تعاني من الاضطرابات.